موقع حوارات

موقع حوارات

قال الدكتور شوقي علام مفتي مصر ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، إن الدستور المصري نص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.

وأضاف شوقي علام خلال لقائه مع الإعلامي حمدي رزق، ببرنامج «نظرة»، المذاع على قناة صدى البلد، أن المبادئ هي الأحكام الشرعية قطعية الثبوت والدلالة، مردفا: «الدستور يقول يا سلطة تشريعية في الدولة لما تيجي تشرعي لا تتبني قوانين على خلاف مبادئ الشريعة الإسلامية لأنها مستقرة وثابتة ولا تتغير بتغير الزمان أو المكان، وهذا أمر تراعيه مصر في كل التشريعات».

وتابع مفتي مصر، أن القانون المصري هو وسيلة تطبيق الشريعة الإسلامية، لأنه لا يمكن وضع النص الشرعي موضع التطبيق إلا من خلال هذه التقنيات في الدولة الحديثة ولا يمكن القول إننا سنخضع لاجتهادات يمكن أن تتغير من قاض لآخر نظرا لوجود وجهات نظر متعددة.

الشروط الكافية التي نص عليها القرآن الكريم لا تتوفر في إثبات العديد من الجرائم

وبين شوقي علام أن الشروط الكافية التي نص عليها القرآن الكريم لا تتوفر في إثبات العديد من الجرائم، ولا يمكن أن يطمئن القاضي إلى وجود الشروط والأسباب التي تؤدي إلى تطبيق العقوبات الحدية خاصة في الزنا والسرقة، موضحا أن الدستور لا يستبدل عقوبة مذكورة في القرآن بأخرى، لكن الشروط لم تتوافر لتطبيق العقوبة ولا يمكن أن تتوافر حتى في أثناء الاعتراف.

وأكد مفتي مصر، أن ما يقر من أحكام مختلفة في القانون المصري، غير الواردة بالنص الشرعي هو نتيجة لعدم توافر الشروط الكافية وليس استبدالا للعقوبات المنصوص عليها.

*المصدر: 

مقدمة:

في هذا المقال أريد أن أناقش أفكارًا نمطية سادت الفكر “التقدمي” و”العلماني” العربي فترة طويلة؛ بل لا زال لها تأثير لا يستهان به عن طبيعة العلاقة بين المؤسسة الدينية وخصومها من رجال “الإصلاح”، وبين مسائل كبرى مثل الاستقلال عن الدولة والاستقلال الوطني ومسألة الديمقراطية والفردية والجماعية في الإدارة، وفي الأمثلة التي سأذكرها سيلاحظ القارئ أن سلوك الفرقاء كان فيه “خروج ملموس” على المتوقع أي على الأفكار النمطية التي نعرفها، الأفكار التي تقول مثلًا إن رجال الدين ممالئون للسلطة وللاستعمار ومعادون للديمقراطية والقرار الجماعي، ومن “البديهيات” طبعًا أنهم معادون لفصل الدين عن الدولة ..

والذي أراه أن هذا “السلوك الغريب” لن يبقى غريبًا بمجرد أن نزيح عن أعيننا حجاب مفاهيم نمطية استوردناها من تجربة تاريخية مختلفة كليًا هي التجربة التاريخية الغربية، وندرس المسائل المبحوثة في سياقها التاريخي الحضاري الخاص وبلا قيم وأحكام مسبقة.

• حين يتمنى أهل الإسلام أن تترك الدولة الدين في حاله!

من المعلوم أن الفكر الإسلامي المعاصر ولد على خلفية معارضة استيراد القوانين التي لا تستند إلى الشريعة الإسلامية وبناء الدولة الحديثة على أساس هذه القوانين لا على أساس الشريعة، ومن هنا اعتدنا على فكرة تبدو بديهية وهي أن الإسلاميين هم الخصوم الألداء لفكرة “فصل الدين عن الدولة”، وهذا ما نجده بالفعل في أدبيات الحركة الإسلامية وصحفها حيث يعتبر هذا الشعار شعار العلمانية وبرنامجها، والدمج بين العلمانية ومبدأ فصل الدين عن الدولة يبدو كما لو كان المسلمة المقابلة والمكافئة لمسلمة الدمج بين الحركة الإسلامية والعداء لهذا المبدأ.

في هذا المقال أريد أن أوضح أن طرح المسألة بهذا الشكل الذي ورد في الفقرة السابقة بعيد جدًا عن الدقة، وأن المسألة أكثر تعقيدًا من هذا التبسيط، ولتوضيح الجوانب التي لا تذكر من هذه المسألة في التحليلات السائدة عمدت إلى استذكار أمثلة من التاريخ الحديث كان فيها أهل الإسلام يكافحون من أجل تطبيق قانون فصل الدين عن الدولة، وكانت الدولة العلمانية على العكس هي التي لا تريد هذا الفصل! وآمل أن قارئي العزيز سيستطيع في النهاية أن يفهم السبب في ذلك ويستخلص العبر من هذه الوقائع، وبصورة خاصة سيعرف القارئ اللبيب إن شاء الله أن كاتب هذه السطور أيضًا ضد فصل الدين عن الحياة بأسرها وعن الدولة بالجملة، ولكن هذا أقرره في النهاية وعلى أساس مختلف عن الأطروحات المتسرعة التي نراها في الساحة الثقافية العربية.

• هل العلمانية تعني دومًا فصل الدين عن الدولة؟

وكتمهيد أذكّر القارئ بأن العلمانية ليست واحدة؛ فثمة علمانية تعني فصل الدين عن الدولة مع عدم تدخل الدولة في شؤون المؤسسة الدينية (الكنيسة وغيرها) وإعطائها الاستقلال الكامل ماليًا وإداريًا وتعليميًا، وعدم تدخل الدولة في شؤون الأفراد الدينية، فيترك من يشاء التدين لتدينه ومن يشاء الابتعاد عن الدين لابتعاده، وهذا النظام هو المتبع مثلًا في إنكلترا وألمانيا (في ألمانيا بالمناسبة تساعد الدولة حتى في جمع نوع من الضريبة للكنيسة تؤخذ تلقائيًا ما لم يخرج الفرد بطلب منه من الكنيسة التي ورثتها عائلته).

هاهنا نجد “فصلًا للدين عن الدولة” بمعنى أن الدولة لا ترى نفسها طرفًا مؤيدًا أو معارضًا للدين وتترك الأفراد والمؤسسات في حالها كما قلنا.

ولكن أوروبا شهدت نوعًا آخر من العلمانية يمكن أن نمثل له بفرنسا الثورة (وقد بقيت عناصر من هذا الموقف في فرنسا الحديثة رغم أن فرنسا الحديثة لم تعد “ثورية تمامًا” لا في هذه القضية ولا غيرها)، والاتحاد السوفياتي السابق وفيه تكون الدولة منفصلة عن الدين ولكنها ليست محايدة دينيًا، فهي أقرب إلى أن تكون معادية للدين، وهي لا تتسامح مع أي تعبير ديني في مؤسسات الدولة وفي المدرسة، وهي بهذا تخرق مبدأ الحرية الشخصية وحرية الاعتقاد الذي تعودنا خطأ أن نعده سائدًا في الغرب بأسره بلا قيود.. ومن الأمثلة المتطرفة لهذه الحالة تركيا وبعض الدول العربية.

وفي هذا المثال الأخير قد يفهم القارئ كيف يمكن للمسلمين أن يطالبوا في حالات معينة بفصل حقيقي للدين عن الدولة، بمعنى أن تكون الدولة محايدة كليًا تجاه معتقدات الأفراد الدينية وتجاه مؤسساتهم التي يبنونها ويمولونها ذاتيًا. فحين تمنع المدرسة الفرنسية حجاب الفتيات ويمنع البرلمان التركي دخول نائبة تضع على رأسها منديلًا؛ فإن الدولتين فرنسا وتركيا تؤكدان بسلوكهما هذا على أن التدين ليس مسألة شخصية، وعلى أن الدولة ليست محايدة دينيًا، بل هي صاحبة موقف ديني ولو بالسلب!

والاتجاه الإسلامي حين عارض فصل الدين عن الدولة فقد كان يتوجه في الواقع بهذه المعارضة في ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول: نحو الماضي وفيه تعبر هذه الحركة عن معارضتها لعملية إحلال القانون الوضعي مكان الشريعة الإسلامية، وهي العملية التي بدأت في السنين الأخيرة للدولة العثمانية واكتملت تقريبًا في عهد الاستعمار ثم الدول المستقلة شكليًا التي بناها ثم في عهد الاستقلال، بحيث لم يبق من الشريعة إلا قانون الأحوال الشخصية الذي يبنى في الدول العربية كلها باستثناء تونس على أساس شرعي إسلامي لا يخرج عن أقوال الفقهاء بمجملها؛ وإن رد بعضها فعلى أساس من أقوال أخرى.

الاتجاه الثاني: اتجاه للحاضر وفيه تكافح هذه الحركة ضد اجتثاث ما تبقى من آثار الشريعة الإسلامية في النظام القانوني.

والاتجاه الثالث أخيرًا: هو من أجل المستقبل المرجو الذي هو عودة الشريعة الإسلامية لتكون هي الناظم المحدد للدولة والمجتمع.

ولكن الإسلاميين في غمرة حماسهم لشعار تطبيق الشريعة وضد شعار فصل الدين عن الدولة تفوتهم رؤية واقعية لموقف الدولة من الدين عندنا، ففي الحقيقة ما يعاني منه المجتمع العربي معاناة مباشرة لا يكاد يكون هو انفصال الدولة عن الدين؛ بل يكاد يكون مسك الدولة للدين مؤسسات ومساجد ومدارس وللتدين الفردي بيد من حديد! ولعل مشاهد تلفزيونات بعض الأقطار العربية سيحس بالرثاء لخطباء صلاة جمعة يمسكون بيدهم ورقة فرضتها عليهم الدولة يقرؤونها لا يحيدون عنها يمينًا ولا شمالًا! ولا شك عندي أن النظام العلماني الألماني مثلًا الذي لا يخطر له على بال أن يكتب موعظة الأحد للقسيسين هو أفضل للدين من هذه الأنظمة التي لا تريد أن “تترك الدين في حاله” ولا تريد “فصل الدين عن الدولة” بهذا المعنى! مع أن هذا الفصل هو شعار مرحلي قد يكون مناسبًا للمسلمين على مبدأ “الوحدة خير من جليس السوء”!

آمل أنني بهذه المقدمة جعلت القارئ أقدر على فهم الأحداث التي ستبدو له غريبة في الجزء التالي من المقال.

• تجربة الجزائر مع قانون فصل الدين عن الدولة في الحقبة الاستعمارية

من الغريب حقًا أن “بلد النور” فرنسا التي كانت في زمن الثورة وهو غير بعيد كثيرًا عن الزمن الذي احتلت فيه الجزائر بلدًا معاديًا للمسيحية علمانيًا بنسخة العلمانية، التي قلنا إنها ليست محايدة تجاه الدين بل هي معادية له، كانت في الجزائر بلدًا مسيحيًا مهتمًا جدًا بنشر المسيحية وتسيير أمور إدارته عبر التعاون الوثيق بين الجنرالات والقساوسة، حتى إن سكرتير الجنرال بيجو أعرب عن إيمانه بحلول عهد ألوهية المسيح في الجزائر: “إن أيام الإسلام قد دنت وفي خلال عشرين عامًا لن يكون للجزائر إله غير المسيح”(1).

وبتعبير فرحات عباس في كتابه ليل الاستعمار: “إن الثورة البرجوازية في فرنسا أعدمت الرهبان، وأحرقت الكنائس، وحاولت نزع الملكية من بلد مسيحي.

أما في الجزائر فهذه البرجوازية نفسها جعلت من المساجد كنائس تنشر المسيحية وتبشر بها في قطر إسلامي، واستعملت في ذلك أموال المسلمين، وتلك هي الطامة الكبرى حيث بعثت الروح الصليبية من مرقدها، رافعة راية المسيح لمحاربة الإسلام، ولو كانت في قرارة نفسها تعبث بكلا الدينين”(2).

والظاهرة غريبة ليس في الجزائر وحدها فمن العجب أن يتذكر الجنرال غورو هزائم حرب قادتها البابوية المكروهة حين وقف يشمت بصلاح الدين، وأن يتذكر ضباط بونابرت في الحملة على مصر في رسائلهم إلى أهلهم هزيمة لويس التاسع في المنصورة.

لا عجب والحالة هذه في أن يتمنى المسلمون لو تقف الدولة الاستعمارية موقفًا محايدًا من الدين، بل سأثير عجب القارئ بأكثر من ذلك: إن المسلمين تمنوا ولا شك والحالة كما وصفنا من تشجيع الدولة للتبشير لو أن الدولة المستعمرة وقفت موقفًا علمانيًا متطرفًا معاديًا مبدئيًا لأي دين كان! إذن لما شجعت القساوسة المبشرين على الأقل ولتساوت الأديان في عداء الدولة لها! ولكن الحال أن الدولة اختصت الإسلام بالعداء وحاولت نشر المسيحية بين الأطفال الأيتام ثم بين الأمازيغ.

لنذكر قبل هذا أول خطوة مهمة فعلتها الدولة المستعمرة وهي التصرف في أموال الأوقاف الإسلامية خلافًا لاتفاق التسليم مع حكومة الجزائر الذي تعهدت فرنسا فيه باحترام الدين الإسلامي وأوقافه ومعاهده، واحترام ملكية المواطنين الجزائريين وحريتهم الدينية.

مصادرة الأوقاف هذه أو تسليمها ليد الدولة كانت هي الخطأ الذي لا يغتفر في تاريخنا الحديث، وقد شارك في هذا الخطأ علماء الحركة الإصلاحية الإسلامية الذين كان همهم تنظيم وتحديث المؤسسات الدينية-كالأزهر وغيره، ورأوا في هيمنة الدولة واستلامها لزمام هذه المؤسسات والقضاء على استقلالها الخطوة التحديثية الضرورية، وكانت النتيجة ما نراه الآن من اضمحلال لاستقلال الأزهر ولهيبته العلمية، وزوال واقعي لمؤسسة جامع الزيتونة ومؤسسات شبيهة أخرى عندنا..

والدولة العلمانية الفرنسية لم تصادر الأوقاف فقط بل صادرت المساجد وحولتها إلى كنائس! هكذا أصبح أكبر مساجد قسنطينة كنيسة ولم يرجع مسجدًا إلا مع الاستقلال، وهكذا جرى مع جامع كيتشاوة في العاصمة الذي تحول إلى كاتدرائية.

وفي عام 1859 صدر قانون بإلغاء المحاكم الشرعية في منطقة القبائل واستبدالها بمحاكم عرفية، الأمر الذي أوقد نار ثورة كبرى في هذه البلاد بقيادة الشيخ محمد الحداد شيخ الطريقة الرحمانية والحاج محمد المقراني، وفي هذه الثورة استشهد من الجزائريين ستون ألفًا، وفقد الفرنسيون عشرين ألف جندي. وبعد قمع الثورة أقر القانون المدني الفرنسي في هذه المناطق، ومنع التكلم فيها بالعربية، وحظر تعليم القرآن والفقه الإسلامي.

لنأت الآن إلى قانون فصل الدين عن الدولة وصدر في فرنسا عام 1905 وبمقتضاه أصبحت الكنيسة في فرنسا مستقلة بكل ما يتعلق بالدين المسيحي عن الدولة، وصدر مرسوم في 27سبتمبر 1907 يطلب العمل به في الجزائر، ولكن هذا القرار طبق على جميع الأديان في الجزائر (اليهودية والمسيحية) ما عدا الدين الإسلامي، فهو وحده الذي بقي مؤممًا يخضع لسيطرة الإدارة الاستعمارية في كل أموره.. فكان الوالي العام الفرنسي في الجزائر هو الرئيس الأعلى للمسلمين في الأمور الدينية، فهو الذي يعين الأئمة في المساجد والمفتين والقضاة ويعزلهم، كما أنه هو الذي يقرر مواعيد الأعياد الإسلامية إلى غير ذلك مما يتصل بأمور الدين..(3).

والنتيجة كان للأقلية المسيحية واليهودية 372 معبدًا في مقابل 166 مسجدًا للأكثرية الساحقة في الجزائر!

وما يهمني في هذا المقال كما يذكر القارئ هو ذكر مطلب المسلمين بأن ترفع الدولة يدها عن الدين وتفصله عنها فصلًا حقيقيًا!

أول وفد جزائري تكون لبحث قضية الجزائر كان في مؤتمر الصلح بفرساي بعد الحرب العالمية الأولى، وكان الوفد مكونًا من نواب جزائريين في المجالس البلدية والعمالية، وكان بقيادة الأمير خالد بن الهاشمي بن الحاج الكبير بن الأمير عبد القادر الجزائري، وحين لم يحصل على نتيجة كوّن الأمير خالد مع زملائه هيئة “وحدة النواب المسلمين”، وعبرت جريدة اسمها “الإقدام” عن آرائها بالعربية والفرنسية.

وفي عام 1925 قدمت هذه الحركة مطالب إلى رئيس وزراء فرنسا عُرفت لاحقًا باسم “مطالب الأمير خالد العشرة”، والمطلب السابع فيها يقول: “تطبيق قانون فصل الدين عن الدولة بالنسبة للدين الإسلامي”!

وبعد نشوء “جمعية العلماء” برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس صار استقلال الدين عن الدولة هدفًا من أهدافها.. يقول رئيس الجمعية الثاني الذي خلف بن باديس بعد وفاته في مقال له في جريدة “البصائر” العدد الثالث من السلسلة الثانية عام 1947: “يا حضرة الاستعمار إن جمعية العلماء تعمل للإسلام بإصلاح عقائده وتفهم حقائقه وإحياء آدابه وتاريخه، وتطالبك بتسليم مساجده وأوقافها إلى أهلها، وتطالبك باستقلال قضائه..”.

ومن العجب بمناسبة ذكر الأوقاف أن التبشير كان يتم في الجزائر بأموال الأوقاف الإسلامية!

وقد شاركت جمعية العلماء في “المؤتمر الإسلامي”عام1936، والمتابع لهذا المؤتمر يجد أن السمة العامة لمطالبه لم تكن استقلالية تطالب بفصل الجزائر عن فرنسا؛ بل كانت تطالب بدمج الجزائر في فرنسا وإزالة توسط الولاية العامة الجزائرية! وهذا سيبدو لنا الآن في غاية الغرابة، ولكن لنقرأ مطالب المؤتمر: “1-إلغاء سائر القوانين الاستثنائية التي لا تطبق إلا على الجزائريين.

2- إلحاق الجزائر بفرنسا رأسًا وإلغاء الولاية العامة الجزائرية ومجلس النيابات المالية ونظام البلديات المختلطة.

3- المحافظة على الحالة الشخصية الإسلامية مع إصلاح المحاكم الشرعية بصفة حقيقية ومطابقة لروح الفقه الإسلامي وتحرير هذا القانون:

– فصل الدين الإسلامي عن الدولة بصفة تامة، وتنفيذ هذا القانون حسب مفهومه ومنطوقه.

– إرجاع سائر المعاهد الدينية إلى الجماعة الإسلامية لتتصرف فيها بواسطة جمعيات دينية مؤسسة تأسيسًا صحيحًا.

– إرجاع أموال الأوقاف لجماعة المسلمين ليمكن بواسطتها القيام بأمور المساجد، والمعاهد الدينية: والذين يقومون بها.

– إلغاء كل ما اتخذ ضد اللغة العربية من وسائل استثنائية، وإلغاء اعتبارها لغة أجنبية.

– الحرية التامة في تعلم اللغة العربية، وحرية القول للصحافة العربية”.

وكما يرى القارئ فالمطالب لم تكن تتضمن أكثر من المطالبة بالعيش في دولة علمانية محايدة تجاه الدين والاختيارات الثقافية للفرد!

وقد نرى الآن أن هذه المطالب في غاية المهاودة بل ثمة من انتقدها في حينه، ولكننا نذكر بأن “فصل الدين عن الدولة” بصورة مطلقة قد لا ترضى به الدولة، وقد يعده علماء المسلمين خطوة مرحلية هامة كما نقول الآن بلغة الأحزاب السياسية المتداولة.

• ما هو مشترك مع تجربة الاستعمار في “الدول المستقلة”.

قد يظن القارئ المتعجل أن ذكر تجربة الإسلام مع الاستعمار الفرنسي لا يفيد إلا هواة التاريخ، وأن هذه التجربة لا علاقة لها بوضع الإسلام في الدول الإسلامية المستقلة، ولكن النظرة الممحصة سترينا ما هو مشترك مع هذه التجربة، ففي الحالتين كانت هناك دولة علمانية صراحة أو ضمنًا ترفض أن تترك الدين والمؤسسة الدينية والتدين الفردي للمجتمع، وتصر على تأميمه والهيمنة عليه وقولبته وتقنينه كليًا.

وفي الحقيقة لو درسنا مليًا تجربة “إصلاح” الأزهر و”تحديثه” لرأينا بوضوح أن هذه المؤسسة العظيمة منذ نهاية القرن التاسع عشر كانت تُلحق تدريجيًا بالدولة أحيانًا مع اعتراض الأزهريين، ولكن غالبًا بموافقتهم، وكان لهذه الموافقة سببان واحد فكري والثاني مادي عملي.

السبب الفكري هو السبب العام المميز للفكر العربي في العصر الحديث وهو الانبهار بالمؤسسات الغربية والسعي إلى بناء المؤسسات المحلية على طريقتها، وهو الأمر الذي قاد مشايخ الأزهر إلى الموافقة على إزالة نظام الحلقات العلمية المفتوحة ونظام المجاورة القديم، واستبداله بنظام الفصول الدراسية والكليات الذي هو ولا ريب أقل “ديمقراطية” إن شئتم وأكثر احتكارًا للعلم، وأقل انفتاحًا على الحوار بين الطلاب والأساتذة، وفي هذا النظام الجديد الذي تصرف فيه الدولة على “جامعة الأزهر” لا عجب أن يصبح الأزهر مؤسسة من مؤسسات الدولة.

وقد كان قانون الأزهر الذي صدر عام 1911 وهو الذي ينظم الدراسة على الطريقة الجديدة وتعديله الذي صدر سنة 1930، وأنشئت على أساسه الكليات الثلاث: الشريعة، واللغة العربية، وكلية أصول الدين هو الخطوة الحاسمة في القضاء على نظام الدراسة القديم.

يقول الشيخ محمد عبد الله عنان في كتابه “تاريخ الجامع الأزهر”: “وقد فقد الأزهر كثيرًا من مزايا الدراسة الجامعية الحقة بإلغاء الحلقات الدراسية الشهيرة التي لبثت قرونًا تزين أروقته وساحاته فقضى عليها النظام الجديد (…)، والواقع أن هذه الحلقات القديمة لم تكن سوى المدرج الجامعي الحديث، وقد كانت تتفوق بلا ريب في عناصرها الجامعية على فصول الكليات الأزهرية، وكان خيرًا لو أصلحت ونظمت على غرار الدراسات الجامعية العليا، التي يتولاها أعلام الأساتذة والأخصائيين، وقد كان في استبقائها على هذا النحو تخليدًا لذكرى الحلقات الأزهرية التاريخية التي كانت أيام ازدهارها من محاسن الدهر ومحاسن الأزهر”(4).

والسبب الثاني المادي العملي مشتق في الحقيقة من تحول النظامين القانوني والتعليمي للدولة، إذ إن القضاء في مصر وما يتبعه من محاماة ووظائف في المحاكم بُني على أساس النظام التشريعي والإداري الغربي، مما جعل الأزهر يحاول عبثًا تأمين وظائف لخريجيه في هذا النظام، وقد انهارت هذه المحاولات مع إلغاء القضاء الشرعي وما يتبعه من محاماة شرعية، وكذلك حُرم الأزهريون من فرصة التدريس في المدارس، أو قاربوا على الحرمان التام مع إنشاء الجامعة وكلية دار العلوم.  

وما جرى للأزهر جرى أسوأ منه للزيتونة مما لا نريد أن نطيل هذا المقال بذكره، ولكن الخلاصة التي نستنتجها من كل ما تقدم أن الدولة في بلادنا هي أول من يعارض استقلال الدين عنها، وعلى الاتجاه الفكري الإسلامي العربي أن يعرف هذه الحقيقة ولا يترك شعاره البعيد وهو بناء الدولة على أساس الشريعة يغطي عينيه، فلا تريان الواقعة القريبة وهي هيمنة الدولة على التدين سواء بشكله المؤسسي أم بشكله الفردي.

وبهذا قد يكون من الحكمة أن يطالب الغيورون حقًا على الشريعة الجامعون مع الغيرة حكمة وفهمًا للسياسة بالإبقاء على ما تبقى من مظاهر الشريعة في الدولة، وبترك الدولة المؤسسات الدينية لاستقلال ذاتي يشبه استقلال الكنيسة في البلاد الأوروبية التي ذكرناها، ما دامت الدولة ترفض السير على الشريعة!

• تجربة العلاقة بين المؤسسة الدينية والشعب والدولة في حالة الكنيسة القبطية المصرية:

في التصور الشائع للعلاقات بين المؤسسة الدينية والمؤسسات الاجتماعية والمفاهيم السياسية من نوع “الدولة”، “الديمقراطية”، “الإجماع”، “فردية القرار”، “فصل الدين عن الدولة”، “الوطنية”، “التبعية للاستعمار”، ثمة مصادرات نموذجية جاهزة في أذهان المثقف العربي الحديث، أريد هنا أن ألقي عليها ضوءًا نقديًا مستندًا إلى التجارب التاريخية الفعلية.

كنا مثلًا استنادًا إلى تقليد يساري ممتد ننسب إلى رجال الدين ممالأة السلطة وإلى المتحررين معاداتها أو على الأقل قلة الاستلطاف بينهم وبينها! وكنا نرى أن “الديمقراطي” الذي يؤمن بإرادة الأكثرية هو بطبيعته يعبر عن مصلحة الجموع ويتطابق معها ويقف إلى جانب مبدأ الإجماع أو الأكثرية في القرارات التي تتخذها الهيئات المختلفة، على حين يميل رجال الدين بطبعهم إلى الفردية في القرار، إلى آخر هذه المصادرات التي نريد للقارئ الآن أن يتابعها بنفسه في مثال أراه قيمًا جدًا ومليئًا بالعبر؛ هو مثال الكنيسة القبطية في مصر في القرن العشرين والنصف الثاني من القرن التاسع عشر في علاقاتها مع المفاهيم والمؤسسات المذكورة(5).

منذ بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر نشأ ضمن الجماعة القبطية تنافس وأحيانًا صراع بين المؤسسة الدينية الممثلة في الكنيسة القبطية الأورثوذكسية بهرميتها ومؤسساتها من كنائس وأديرة وما يمول هذه المؤسسة من أوقاف كثيرة، وبين المؤسسة العلمانية الناشئة التي تمثلت في “المجلس الملي” الذي صدر قرار إنشاؤه لأول مرة في عام 1874 على عهد الخديوي إسماعيل، ومن أبرز قيادات هذا المجلس كان الشخصية السياسية المشهورة بطرس غالي.

وفي ذلك الوقت كان منصب البطريركية خاليًا لوفاة البطريرك ديمتريوس عام 1872 وكان يدير أعمال الكرسي البطريركي بالوكالة الأنبا مرقس مطران البحيرة، وقد قام هذا المجلس بانتخاب البطريرك الجديد الذي كان الأنبا كيرلس الخامس، وكان هذا استنادًا إلى تقليد قديم يجعل انتخاب البطريرك عملية يشارك فيها أفراد الطائفة القبطية من خارج السلك الكهنوتي- بل يرى بعضهم أن البطريرك لا مانع من أن يكون قادمًا من خارج المؤسسة الدينية أصلًا.

وباختصار كانت وظيفة المجلس الملي أن يهتم بإدارة كل ما لا يخص الجانب الديني البحت من شؤون الكنيسة.

وكانت الجهة المهيمنة على المجلس الملي تتهم الجهاز الديني بإساءة الإدارة المالية، وأما البطريرك فرأى في المجلس محاولة غير مشروعة لإنشاء سلطة موازية للكنيسة تتدخل في شؤونها، لذلك سرعان ما عطل المجلس وظل المجلس معطلًا حتى عام 1883 عندما عاد بعض الوجهاء الأقباط وطالبوا البطريرك بإعادة المجلس فلم يوافق، وحين سعى هؤلاء الوجهاء عند الدولة لإعادة المجلس أرسل كيرلس الخامس إلى رئيس الوزراء يقول: “لقد اختبرنا ذلك المجلس فلم نر منه فوائد لأية جهة كانت واستغنى الحال عنه من وقتها”، ثم طلب من الخديوي عدم عقد المجلس ولكن الخديوي أجبره على إعادته، وكان لسعي بطرس غالي عند الدولة دور في هذا الشأن فانصاع البطريرك وصدر الأمر العالي بتشكيل المجلس في 13 مارس 1883، وانتخب بطرس غالي وكيلًا له ثم أعد المجلس لائحة له صدر بها الأمر العالي في 14 مايو 1883.

وكانت الوظيفة المقررة للمجلس الملي وفقًا للائحة هي “النظر في كافة المصالح الداخلية للأقباط، وحصر أوقاف الكنائس والأديرة والمدارس وجمع حججها ومستنداتها، وتنظيم حسابات الإيراد والمنصرف، وحفظ الأرصدة وإدارة المدارس والمطبعة، ومساعدة الفقراء، وحصر الكنائس وقسسها والأديرة ورهبانها والأمتعة والسجلات، والقيام بوظيفة محكمة الأحوال الشخصية التي تنظر منازعات الزواج والطلاق وغيرها”، ويتشكل المجلس من 12 عضوًا و12 نائبًا يكونون معًا الجمعية العمومية. والأعضاء والنواب ينتخبون 150 ناخبًا، ويكون البطريرك هو رئيس الاجتماع الانتخابي ورئيس المجلس الملي، على أن يكون للمجلس وكيل من أعضائه يقوم مقام الرئيس عند غيابه، ومدة عضوية المجلس 5 سنوات(6).

وكما قال صلاح عيسى: “وخوفًا من أن يتجمد المجلس مرة أخرى فإن الداعين إليه استصدروا قانونًا يحدد العلاقة بين البطريرك والمجلس، بحيث لا تكون اللائحة مجرد قرار صادر من المجلس نفسه ولكنها تصبح قانونًا له قوة النفاذ”.

ولنتذكر هنا هذه النقطة فسوف نجدها كثيرًا كما وجدناها في الفقرة السابقة: إن دعاة “فصل الدين عن الدولة” بمعنى فصل المؤسسة الدينية عن الدولة وجعلها مؤسسة مستقلة ذاتيًا لم يكونوا في هذه الحالة كما في حالات أخرى كثيرة الأطراف “الإصلاحية العلمانية الديمقراطية”، بل كانت هذه الأطراف هي التي تستعين بالدولة لإجراء التغييرات في المؤسسة الدينية وإزالة استقلاليتها وإلحاقها بالجهاز السلطوي، على حين كانت المؤسسة الدينية هي التي تناضل في سبيل الاستقلال الذاتي عن الدولة.

وبعد هذا جمد المجلس الملي مرة أخرى بعد رفض البطريرك محاولة هذا المجلس التدخل في شؤون الأديرة وأوقافها إلى أن جاء عام 1891، وفي هذا العام طلب عدد من وجهاء الأقباط من البطريرك إعادة تشكيل المجلس، ولكنه رفض قائلًا: إن اللائحة التي تحدد اختصاصات المجلس مخالفة لشرائع وقوانين الكنيسة، واقترح البابا أن تعرض اللائحة على جمعية من المطارنة والأساقفة لبيان وجهة نظر الشريعة الدينية فيها، فرفض الوجهاء هذا الاقتراح وتشاجروا مع البابا وخرجوا ووجهوا دعوات إلى الطائفة القبطية لتجتمع وتنتخب جمعية عمومية، فرفض البابا هذه الدعوة وعقد “مجمعًا مقدسًا” للنظر في انسجام المجلس مع الإنجيل، ورفض دعاة المجلس حضور هذا المجمع للمناقشة، ثم صدر قرار المجمع بأن فكرة إنشاء مجلس ملي هي فكرة مخالفة للإنجيل والقوانين الكنسية التي تعطي البطريرك تفويضًا كاملًا في كل الأمور العامة بما فيها تنفيذ الأحكام وقطع المنازعات وتقدير العطاء للمستحقين، وقرر المجمع أن تدخل أحد من الشعب في تدبير أمور الكنيسة ومتعلقاتها في شكل مجالس أو في أي شكل هو مخالف للأوامر الإلهية والنصوص الرسولية، ذلك أن إنشاء هذا المجلس هو سلب لحقوق الكنيسة وشرف رؤسائها المأمور بها من الإله، وتسليم شعبها لقيادة من لم تكن لهم السلطة.

بعد ذلك أسس دعاة الإصلاح جمعية سموها “جمعية التوفيق القبطية” وأصدرت الجمعية مجلة هاجمت فيها البطريركية وحالة المدارس التي تديرها والأديرة والأوقاف والرهبان والإكليروس، وأسس مناصروا الكنيسة جمعية سموها “الجمعية الأرثوذكسية” بادلت الهجوم بهجوم معاكس، وانهالت برقيات أنصار الإصلاح على الحكومة والخديوي تطالب بإلحاح بتشكيل المجلس الملي مرة أخرى، وفي صيف 1892 قابل بطرس غالي الخديوي عباس حلمي الثاني في الإسكندرية وطلب منه تشكيل المجلس، وبالفعل وافق الخديوي وانتخب المجلس الجديد في الدار البطريركية، وقد اختير 24 عضوًا من الأعيان البارزين، صار منهم اثنان رئيسي وزارة بعد ذلك، هما بطرس غالي ويوسف وهبة، وواحد صار وزيرًا هو مرقس سميكة.

وعارض البابا تشكيل المجلس معارضة تامة مستندًا إلى قرار المجمع المقدس، وسانده في هذه المعارضة وكيل البطريركية مطران الإسكندرية الأنبا يؤانس، أما الخديوي فاستاء من تحريضهما الشعب على المجلس، وحين حاول الاثنان زيارته في عيد الأضحى لتهنئته كالعادة رفض الخديوي استقبالهما.

وشن البابا حملة واسعة على دعاة المجلس الملي، ووجه إليهم تهمة خطيرة لم تكن كما يرى المدقق في وثائق تلك المرحلة خالية كليًا من الصحة، وهي أن دعاة المجلس هم من الزائغين عن العقيدة القبطية الأرثوذكسية الذين ساروا مع المبشرين البروتستانت، وكان نشاط هؤلاء قد قوي بصورة خطيرة وبدأ يجني ثمارًا ملموسة من حملاته التبشيرية بين أفراد الجماعة القبطية. وقال البابا: إن الحكومة ليس لها مصلحة في فرض المجلس على الكنيسة لأن المسألة غير سياسية بل هي “دينية كنائسية شرعية”.

وتدخل القنصل الروسي متوسطًا بين بطرس غالي والبطريرك، وتوصل الجانبان إلى اتفاق تعدل فيه لائحة المجلس، فتظل الأديرة تحت إشراف البطريرك، وتقسم المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية إلى قسمين شرعي من اختصاص المجلس الروحي، وحسبي من اختصاص المجلس الملي، وأخذ التعديل كما يقول صلاح عيسى بوجهة نظر البابا الذي اتهم بعض أعضاء المجلس الملي بأنهم ليس من الأرثوذكس بل هم أميل إلى البروتستانتية، فتقرر أن يحل محلهم عدد من الإكليروس نسبتهم إلى العلمانيين ثلث إلى ثلثين.  

ولكن المجلس رفض التعديلات واشترط على البطريرك ألا ينفرد بعمل يدخل في دائرة اختصاص المجلس، ولا يأخذ شيئًا من الإيرادات سواء كانت من الأوقاف أم من مرتبات الأساقفة أم من تركاتهم إلى آخره، ولا يأخذ سوى الهدايا الشخصية ويكتفي بمرتب شهري يساوي ثلاثين “بنتو”.

فرفض البطريرك هذا وهاجم قرار المجلس وقال: إنه لا يريد الصلح وإنما التحكم في الإكليروس والبابا، وإن المجلس يريد وضع الإكليروس تحت أمر الشعب، بينما قواعد الدين تجعل الشعب تحت أمر الإكليروس.

وعندما تصاعد الخلاف إلى هذه الدرجة قرر المجلس الملي عزل البابا واختيار الأنبا اثناسيوس أسقف صنبو وكيلًا لإدارة البطريركية، وحين وافق هذا الأسقف أسرع البابا إلى عقد مجلس روحي مقدس قرر حرمانه وطرده من الكنيسة.  

وقد قام أعضاء المجلس بجهود كبيرة لإقناع الحكومة بالضغط على الخديوي لإصدار قرار بالعزل، وبالفعل صدر قرار الخديوي بعزل البابا ونفيه هو ومناصره الأنبا يؤانس، الأول إلى دير البراموس بصحراء وادي النطرون، والثاني إلى دير الأنبا بولا بالصحراء الشرقية.

• الجماهير مع من؟

إذا كان عزل البابا ونفيه انتصارًا للمجلس الملي و”الإصلاحيين”؛ فإن الذي حول هذا الانتصار إلى هزيمة لاحقة رغم وقوف الحكومة إلى جانب المجلس كان الجماهير القبطية، ويصف صلاح عيسى في مقاله الشيق “البطريرك في المنفى” كيف تعاملت الجماهير القبطية مع هذه التغييرات في قيادة الكنيسة.

فلقد نفذت الجماهير قرار البابا بحرمان الأسقف، ويقول عيسى: “هجر الأقباط دار البطريركية وواجه أسقف صنبو الأنبا اثناسيوس مجموعة من الظروف المحرجة، فعندما أراد أن يزور أحد وجهاء الطائفة في بيته حدثت مشكلة بين الوجيه المذكور وزوجته وأبنائه وأشقائه، إنهم جميعًا يقيمون في دار واحدة وهم أرثوذكسيون مؤمنون ولا يمكن أن يسمحوا بأن يدخل دارهم رجل محروم بقرار من مجمع مقدس، إنهم لا يقبلون مخالطته ولا مؤاكلته ولا الحديث معه، بل ويرفضون حتى مجرد أن يلج عتبة باب دارهم. وكان موقفًا مؤلمًا ومحرجًا لأسقف صنبو بيد أنه تكرر كثيرًا.. في تلك الأيام هجر الأقباط في مصر كنائسهم فالكنيسة المرقسية الكبرى كانت تحت إشراف الآغامانس فليتاؤس عوض، وكان من دعاة المجلس ومؤيديه، بل، ويا للكارثة كان أحد القسس الذين وقعوا على قرار نفي البابا كيرلس الخامس، وبحث الأقباط في القاهرة عن كنيسة أرثوذكسية يصلون فيها فلم يجدوا سوى كنيسة الروم الأرثوذوكس بالحمزاوي فتوجهوا إليها في أيام الآحاد التالية لذلك، ولأن الكنيسة في الأصل مخصصة لجالية محدودة العدد فإن الأعداد الهائلة من الأقباط الذين ذهبوا للصلاة فيها قد أدت إلى ازدحامها بالمصلين، وغير القسس لغة الصلاة من اليونانية إلى العربية، وتعطلت أكاليل الزواج في القاهرة، واضطر أبناء الطائفة للذهاب إلى الجيزة لعقد الزواج.

وكلما توفي أحد لم يدخلوه قط إلى الكنيسة المرقسية الكبرى التي كانت تحت الحرم، وعندما توفي جرجس بك شلبي وكان من وجهاء الأقباط وذهب القمص فلتاؤس عوض لدار المتوفي للصلاة عليه رفض أهله ذلك، لأن القمص عضو بالمجلس الملي ومخالط للأسقف المحروم فهو إذن محروم مثله، ولذلك طردوه من دارهم ولم يصلوا على الميت في كنيسة كبرى، ولكن في كنيسة صغيرة (…)، وتزايدت هجرة الأقباط من كنائسهم وعندما جاء عيد الصليب لم يحضر في كنيسة الملاك البحري سوى ستة أشخاص، مع أن العادة كانت قد جرت بأن هذا العيد مهرجان ضخم تمتلئ فيه هذه الكنيسة بالآلاف من الناس، وفي هذا العيد أيضًا لم يذهب الناس كعادتهم إلى دير العريان بالمعصرة لذبح الذبائح ،وأقفلت الكنائس تمامًا ككنيسة الزقازيق، ونضبت إيرادات البطريركية فلم يرد إليها شيء من البلاد، وبمضي الوقت كان عدد الممتنعين عن الذهاب إلى الكنائس يزداد”.

وبعد سنة من عزل البابا ونفيه أقنع رئيس الوزراء الجديد رياض باشا الخديوي بأنه ما كان له الحق في نفي البابا وأما الخديوي فوضع المسؤولية على من أشار عليه بهذا القرار من الأقباط وعلى رأسهم بطرس غالي باشا ثم أعيد البابا ومنحه الخديوي أكبر وسام آنذاك وهو الوشاح المجيدي وصفح البابا عن خصومه وعفا عنهم وألغي المجلس الملي وقامت مكانه لجنة ملية مؤقتة مؤلفة من 4 أشخاص.

• “المحافظون” و”الإصلاحيون” في مسألة الوطنية والتبعية

هذا الصراع مليء بالعبر وهو يدلنا مرة أخرى على مقدار الخطل في المحاكمات الحداثية التي تعودنا عليها، فقد كان من الممكن لكل محلل ذكي أن يرى وراء أكمة الشعار الإصلاحي ارتباطات الإصلاحيين الوثيقة بالإنكليز، ومحاولاتهم تحويل الكنيسة القبطية إلى كنيسة قريبة من البروتستانتية لتكون موالية لإنكلترا، ومحاولة السلطة إزالة استقلالية الكنيسة وإلحاقها بجهازها كما فعلت بنجاح تام مع الأزهر، وقد يعترض بعض المؤرخين علينا بالقول إن البابا أيضًا كان له مناصرون خارجيون متمثلون في القيصر الروسي، بل فرنسا أيضًا تدخلت لصالحه نكاية ببريطانيا، لأنها حتى ذلك الحين لم تكن قد أقرت لبريطانيا بحق الهيمنة على مصر (وهذا الإقرار جرى لاحقًا عام 1904 فيما سمي “الاتفاق الودي”)، ولكن هذا الاعتراض غير وجيه في رأيي لأن فرنسا لم تكن تشكل أي قوة خطيرة داخل مصر مقارنة بإنكلترا، وروسيا كانت بعد أبعد من فرنسا عن تشكيل مثل هذه القوة، وبالتالي فإن التدخلين بخلاف التدخل الإنكليزي لم يكونا يهددان الاستقلال الوطني للكنيسة القبطية. 

أما البابا كيرلس الخامس فقد كان مشهودًا له بالوطنية وكانت له مواقفه الحاسمة في هذا الاتجاه، فقد كان ممن أيد عرابي وعارض الغزو الإنكليزي، وأعلن فتوى تقول إن العدوان الإنكليزي على مصر يخالف تعاليم المسيحية الحقة، وأنهم بعدوانهم كفرة خارجون على دينهم، ووقع على قرار خلع الخديوي توفيق ورفض مساعي اللورد كرومر لوضع الكنيسة القبطية تحت الحماية البريطانية، ورفض عروض هذا اللورد لمساعدة مدارس الكنيسة ماليًا، وفي عام 1911 نصح الأقباط أن لا يعقدوا المؤتمر القبطي ذي التوجه الطائفي ووقف مع ثورة 1919، وكان له دوره المؤثر في تحقيق تلك الوحدة الوطنية الكبيرة بين عنصري الشعب المصري في الثورة، وكما قال العقاد عنه: إنه كان “رجلًا ناسكًا متعبدًا مؤمنًا برسالته الدينية أشد الإيمان، وكان مع رعايته لفرائض الدين لا ينسى فرائض الكرامة الدنيوية في معاملته لأصحاب السلطان ولو كانوا من الملوك أو في حكم الملوك. خطر لعميد الاحتلال البريطاني اللورد كيتشينر أن يلقاه على غير موعد فذهب إلى الدار البطريركية وأمر الحجاب أن يبلغوا صاحب الغبطة أن فخامته موجود في الدار، فهرول الحاجب الملازم له وهو يلهث ويكاد يصيح: اللورد يا أبانا.. اللورد يا أبانا.. فسأله في أناة: من اللورد يا هذا؟ وعلم جلية الخبر فلم يزد على أن قال: اذهب يا ولد وقل لفخامته إن البابا لا يقابل بغير ميعاد. وطلب منه الملك فؤاد أن يبارك وزارته كما بارك سعدًا فلم يجبه ولم يزد على أن قال: إن البركة لا تمنح باليمين وتسلب باليسار”(7).

والصراع بين التيار الإصلاحي والجهاز الكنسي لم يتوقف لاحقًا وكانت له جولاته وفيها هزائم وانتصارات لكل من الطرفين ولنذكر الآن واحدة منها وهي تلك التي جرت بعد وفاة البابا كيرلس الخامس عام 1927وهو البابا الذي وصفته صحيفة إصلاحية ناطقة بالإنكليزية “المورنينغ بوست” بعد وفاته بأنه “رجل قليل البصيرة والعلم ميال للمشاكسة صبر الناس على حياته الطويلة عديمة الجدوى بأمل أن تتاح فرصة الإصلاح بعد وفاته”(8).

وقد دارت المعركة حول انتخاب وكيل للبطريركية بانتظار انتخاب بطريرك جديد، ثم بعد ذلك جرت معركة انتخاب البطريرك.

وكان المطران يؤانس الذي ذكرناه سابقًا مقربًا من البطريرك المتوفى ومهيمنًا على الجهاز الكنسي، فكان بهذا أقوى المرشحين للنيابة البطريركية، وكان متهمًا من الرأي العام الإصلاحي بأنه مسؤول عن فساد الإدارة وتبديد الأموال، وفي مواجهته كان المطران مكاريوس مطران أسيوط وهو داعية قديم للإصلاح، وأخذ عليه أنه قبل برئاسة المؤتمر الذي عقده ذوو الاتجاه الطائفي من الأقباط عام 1911، وهذه نقطة ملتبسة قابلة لتأويلات متعددة لن نطيل النقاش فيها هنا، ونعيد القارئ المهتم إلى الصفحة 411 من كتاب طارق البشري “المسلمون والأقباط”.

كان الأنبا يؤانس إذن مرشح الإكليروس للنيابة البطريركية، وفي المقابل كان المطران مكاريوس مرشح الإصلاحيين الذين يبدو أنهم في هذا الوقت كانوا حائزين على شعبية لا بأس بها، والنقطة الأولى في الصراع التي تستثير الذكر لاحظها طارق البشري: “لقد جاءت وفاة كيرلس الخامس في وقت إعادة اختصاصات المجلس الملي إليه وارتفاع موجة الإصلاحيين ضد يؤانس وأنصاره، لذلك ظهر في البداية أن يؤانس صاحب الكفة المرجوحة، ولكن من يعرف أن المسيطر على الأبنية التنظيمية في أية مؤسسة هو الكاسب فيها ما دام يتمتع بتأييد رجالها وما دامت تلك المؤسسة قائمة ونشيطة لا يتهددها انهيار، من يعرف هذه الحقيقة يدرك أن يؤانس رغم خفة موازينه العامة كان على العكس هو صاحب القدح المعلى، إن يؤانس رغم أن قسمًا كبيرًا من ناخبيه سيكون من خارج الكنيسة فهو يقف عمليًا على رأس هذه الكنيسة بما لها من سلطان روحي على الآخرين، وبما لا تزال تقبض عليه من شؤون المال والإدارة. وقرارات الكنيسة مهما صادفت من معارضة خارجية فهي صاحبة القرار الممسكة بزمام الشرعية الكنسية، ومهما كانت المعارضة ضدها منظمة فإن هذه المعارضة التي تأتي من خارجها لا تمثل سلطة إصدار القرار للشرعية، وبهذا لن تمثل المعارضة إلا جماعات للضغط مهما بلغت قوتها فلا تصل بها إلى النفوذ الحاسم(…)، فكان مكاريوس هنا كالشيخ محمد عبده يأتيه التأييد من خارج مؤسسته لا من داخلها، وكانت مشكلة مكاريوس الخطيرة لا تتأتى فحسب من كونه معزولًا بين رجال الدين، ولكن من أن المؤسسة التي رشح لرياستها قد استقطبت ضده حيث صار لا يصلح لها ولا تصلح له، ولم يكن ثمة خيار إلا أن يقتحم أنصاره به المؤسسة الدينية لا ليعين رئيسًا لها فحسب ولكن ليعيد صياغتها كلها صياغة أخرى وليغير من طاقمها بما يتفق مع موقفه، وهذا أمر من الصعوبة بمكان بمراعاة التقاليد الكنسية الراسخة”(9).

وفي مواجهة التأييد الإكريلكي ليؤانس غيّر أنصار الإصلاح التكتيك وطالبوا بانتخاب البطريرك رأسًا دون البدء بتعيين نائب بطريركي.

وبعد صراعات طويلة ومد وجزر بين الطرفين لا نريد أن نطيل المقال بذكر تفاصيلها؛ عقد الإصلاحيون اجتماعًا كبيرًا بقيادة الدكتور سوريال جرجس الذي كان من نواب الوفد في مجلس الشيوخ، وكان المفروض أن الاجتماع مخصص لتأييد انتخاب يوحنا سلامة وهو مرشح إصلاحي لمنصب البطريرك، غير أن الاجتماع حول إلى عملية انتخاب البطريرك فوافقت الأغلبية على انتخاب سلامة بطريركًا، مما فاجأ بعض الحاضرين ولم ينجح الانتخاب المذكور في الحصول على الشرعية، وفي ديسمبر1928 صدر أمر ملكي يتضمن وجوب الإسراع بانتخاب البطريرك، وتضمن تحديدًا لجمعية الانتخاب، وقد ضمن هذا التحديد فوز مرشح الجهاز الإكريليكي يؤانس لأن الغالبية اختيرت من مؤيديه، وبالفعل انتخب يؤانس بطريركًا وعين رسميًا في 9 ديسمبر 1928، والنقطة التي يفيدنا أن نذكرها هنا هي أن مرشح الإصلاحيين يوحنا كان وفق أدلة كثيرة مؤيدًا من قبل الكنيسة الأسقفية الإنكليزية وواحد من أكبر مشايعيه وهو القمص إبراهيم لوقا راعي كنيسة مصر الجديدة، وكان هو المنظم الرئيس للاجتماع الذي انتخب يوحنا وغالبية المدعوين للاجتماع كانوا من أنصاره، وكان من أعضاء جمعية أصدقاء الكتاب المقدس التي أسسها مبشران أسقفيان هما: ثورنتون وجاردينر، وقد ذكر أن لوقا كان يستعمل ترانيم بروتستانتية في خدمة قداس الكنيسة الأرثوذكسية، وكان من دعاة التقريب بين الكنيستين الإنكليزية والقبطية، وفي المقابل كان يؤانس حائزًا على دعم الملك، ونلاحظ هنا تعقيد العلاقة بين القوى الخارجية والأطراف المتصارعة داخل الجماعة القبطية، فالإنكليز وعدوا الإصلاحيين سرًا بالدعم، وفي المقابل فإن الملك دعم يؤانس، والواضح أن الإنكليز سحبوا دعمهم ليوحنا في اللحظة الحاسمة لا لأنهم كفوا عن دعم الإصلاحيين، بل لأنهم كانوا يريدون تقسيم الكنيسة بدليل أن اللورد لويد الذي كان يدعم الإصلاحيين سرًا ويعدهم بالدعم في الانتخابات ثم لم ينفذ وعده، وسرعان ما اتصل بلوقا بعد الانتخابات وطلب منه الانضمام إلى الكنيسة الأسقفية. يقول طارق البشري في تفسير الموقف الإنكليزي الملتبس: إنه بعد أن حاولت الكنيسة الأسقفية استيعاب الكنيسة القبطية، وقاوم الأقباط ذلك وانضموا إلى الحركة الوطنية بقيادة الوفد، ورفضوا حماية الإنكليز وفكرة التمثيل النسبي، “فلعله يكون من المنطقي أن يفكر راسمو السياسة الإنكليزية بمعونة المبشرين الأسقفيين في العمل على شق الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لاستخراج فريق من الأقباط منها، وإذا لم يمكن ضم هذا الفريق إلى الكنيسة الأسقفية فسيكون على الأقل أقلية من أقلية تؤيد الاحتلال، وليس أنجح في هذا الأمر من دعم الخلاف بين الأقباط ومظاهرة كلا الفريقين فيما يفرق بينهما، وليس خيرًا من تنصيب يؤانس عاملًا يظهر به المنشقون أمام جمهور القبط بمظهر الإصلاح والاستنارة”(10).

فاز يؤانس بانتخابات البطريركية وظل بطريركًا حتى توفي عام 1942، وكان هو نفسه رجلًا متقشفًا زاهدًا، ولكن المحيطين به اتهموا بالتبديد، ويصفه البشري بأنه: “كان رجلًا ينتمي إلى الأجيال المنحدرة عن القرون الوسطى، الدين عنده عبادة لا علم، والفضل في الدين عنده للأكثر ممارسة للعبادات والطقوس لا للأوغل في العلوم، والصلابة عنده للأكثر محافظة على تقاليد السلف، والرياسة سلطان أبوي، والجديد بدعة من البدع. والفكرة الديمقراطية والنيابة عن الجماهير وترشيد الإدارة وتنظيم الرقابة وإنشاء المدارس وإدراك متطلبات العصر، وكل تلك الأمور التي تمليها النظرة المستقبلية؛ فلأنها تمليها النظرة المستقبلية لم يكن له بها أدنى شأن”.

• رجال الدين و”الإصلاحيون” في مسألة القرار الجماعي والقرار الفردي

من الأحداث البارزة التي جرت بعد هذا أن الإصلاحيين تمكنوا أخيرًا عام 1944 من إيصال مرشحهم إلى سدة البابوية، إذ فاز المطران مكاريوس فوزًا كبيرًا وأيده الإصلاحيون المهيمنون على المجلس الملي، وأيدته أيضًا الحكومة الوفدية القائمة، لذلك شرع البطريرك الجديد في تنفيذ مطالب الإصلاحيين فأصدر قرارًا بتنظيم إدارة أوقاف الأديرة، فأسند الإدارة إلى المجلس الملي، وألف لجنة ينتخبها المجلس ويصدق عليها هو مهمتها جرد أملاك الأديرة ومحاسبة النظار وتنظيم إدارتها، وتنظيم أوضاع الرهبان، والإنفاق من إيرادات هذه الأوقاف لسد حاجات الأديرة، وتخصيص ما يفيض للأغراض الإصلاحية، وقرر أن يكون تعيين نظار الأوقاف وإقالتهم باقتراح من هذه اللجنة يعتمده البطريرك، وقوبل القرار بحماس بالغ وازدحمت الوفود المهنئة بمقر البطريركية، وازدحمت الصحف ببرقيات التهنئة. ولكن البطريرك وجد نفسه وحيدًا في الجهاز الإكليريكي وعارض أعضاء المجلس المقدس القرارات الجديدة، ورفضوا اختصاص المجلس الملي بإدارة أوقاف الأديرة، وظل صوت رئيس المجمع وهو البطريرك وحيدًا، وقد أيد مجلس الوزراء موقف البطريرك وأعطى قراره الشرعية، لكن تنفيذ هذا القرار لم يكن ممكنًا في ظل اعتراض رجال الكنيسة، وهنا ظهر موقف طريف نحب أن ينتبه إليه القارئ يصفه طارق البشري: “انقلبت المواقف، صار الإصلاحيون الديمقراطيون “يطالبون” بدعم وتأكيد السلطة الفردية للبطريرك ويحبذون سلطانه على التابعين للكنيسة، وصار المطارنة المحافظون “يمارسون” ديمقراطية التنظيم الكنسي قائلين إن البطريرك ليس إلا مطرانًا، هو كبيرهم ليس إلا. والمجلس الملي يطالب ببطلان اجتماعات المجمع المقدس بغير رياسة البطريرك ودعوته، والمجمع يجتمع ويقرر وينفذ ويمارس “شرعية القرار الجماعي”(11).

ومن الأمور الجديرة بالذكر أيضًا في هذا السياق أن الإصلاحيين طلبوا من الحكومة تنفيذ القرار بقوة السلطة، ولكن رئيس الحكومة الوفدي النحاس كان هو الذي رفض هذا وأصر أن يكون التنفيذ بقوة القضاء والمحكمة فقط! 

وقد انتهت هذه الحلقة من حلقات الصراع بعودة مكاريوس إلى تبني مواقف رجال كنيسته وتخليه عن “الإصلاحيين”.

___________________________________________

الهوامش:

1- كوليت وفرنسيس جانسون “الجزائر الثائرة”، ترجمة: علوي الشريف وآخرين، دار الهلال، القاهرة، 1957، ص41.

في: “الشيخ عبد الحميد بن باديس -فلسفته وجهوده في التربية والتعليم”، الأستاذ تركي رابح، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع- الجزائر، تاريخ المقدمة، 1969.

 2- فرحات عباس، “ليل الاستعمار”، ترجمة: أبو بكر رحال، مطبعة فضالة، المغرب، بدون تاريخ، ص105.

 3- تركي رابح، “الشيخ عبد الحميد بن باديس..”، ص47.

 4- محمد عبد الله عنان، “تاريخ الجامع الأزهر”، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، 1958، ص264.

 5- اعتمدت في العرض اللاحق على مواد صحفية متفرقة علاوة على مقال شيق لصلاح عيسى “البطريرك في المنفى”، مجلة “اليسار” المصرية، العدد الأول، مارس 1990. واعتمادي الأساسي كان على كتاب طارق البشري الممتاز “المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية”- الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة- 1980.

6– طارق البشري، “المسلمون والأقباط..”، ص396.

 7- موجودة في طارق البشري، مرجع سابق، ص397، نقلًا عن جريدة الأخبار 26 سبتمبر 1955.

 8- في طارق البشري، المرجع السابق، ص408.

 9- طارق البشري، المرجع نفسه، ص 414.

 10- طارق البشري- م. س، ص433.

 11- طارق البشري- م. س، ص 447.

في التاسع عشر من أكتوبر لسنة 2021 قضت محكمة العطارين لشئون اﻷسرة فى الدعوى رقم 243 لسنة 2021، بإدخال ورثة وفقا للائحة الطائفة الإنجيلية للأحوال الشخصية. وجاء قرار المحكمة – وهو الأول من نوعه – ببطلان إعلام الوراثة رقم 198 لسنة 2021 وراثات العطارين، الذي صدر وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية، واعتبارها كأن لم تكن. وعليه يتم تقسيم إرث المرحوم/ فؤاد صدقى ابراهيم، وفقا لمبادئ الشريعة المسيحية لائحة الأقباط الإنجيليين الوطنيين، بما يعني حصر إرثه فى أبناء شقيقه ويستحقون ثلثى التركة، وأبناء شقيقته ويستحقون ثلث التركة، بدلا من انفراد أبناء شقيقه بكامل التركة. يأتي هذا إعمالا ﻷحكام المادة 81 من لائحة الطائفة الإنجيلية للأحوال الشخصية، والمادة 73 من ذات اللائحة.

كان السيد/ هاني رفيق صدقى قد تقدم فى مارس الماضى بطلب لتحقيق وفاة ووراثة عمه المرحوم/ فؤاد صدقي إبراهيم. وطلب الأول تطبيق مبادئ الشريعة المسيحية فى الإرث – وفقا للمادة الثالثة من الدستور، وطبقًا للائحة الطائفة الإنجيلية فى اﻷحوال الشخصية – ومساواة طائفة الإنجيليين الوطنيين بطائفة اﻷقباط اﻷرثوذكس في تطبيق لائحتها نظرًا للمساواة فى المركز القانونى. حضر جميع اﻷطراف، وأقروا بالموافقة على تطبيق مبادئ الشريعة المسيحية في الإرث. لكن المحكمة لم تلتفت لطلباتهم، وقضت بما لم يطلبوه بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وانفراد العصبة من الذكور بالإرث ( أبناء شقيق المورث).

جدير بالذكر أنه وفقا للشريعة الإسلامية، في حالة وفاة أحد الأشخاص دون أن يكون له وريث من الدرجتين الأولى والثانية، يؤول الإرث إلى الذكور دون الإناث من فروع أشقائه الذكور، ودون فروع شقيقاته اﻹناث. ويختلف هذا عن لائحة الأقباط الأرثوذكس التي تقر توزيع الإرث بالتساوي بين فروع الأشقاء الذكور والإناث، بينما تنص لائحة الأقباط الإنجيليين على أنصبة لفروع الأشقاء الذكور ضعف فروع الإناث.

وفي مايو الماضي طعن محامو المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، موكلين من السيد/ ماجد عزمى يوسف ابن شقيقة المرحوم/ فؤاد صدقى ابراهيم، ببطلان إعلام الوراثة. وطالب بتفعيل المادة الثالثة من الدستور المصري، ومساواة طائفة الإنجيليين الوطنيين بطائفة اﻷقباط اﻷرثوذكس، التي قضت لصالحهم المحاكم بتطبيق مبادئ شرائعهم فى الإرث. وذلك بحيث يوزع الإرث بين أبناء شقيق المورث، وأبناء شقيقته، وألا ينفرد بذلك الإرث أبناء شقيقه الذكور. 

*المصدر: 

دخلت كلية الحقوق حين دخلتها منذ أعوام بعيدة، متأثرًا بما اطلعت عليه في كتاب وثائقي كانت تضمه مكتبة الوالد -عليه رحمة الله- عنوانه: «الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية» وهو كتاب فاخر المظهر، مصقول الصفحات، وقد أحيطت كل صفحة منه بإطار ذهبي، وتخللت صفحاته صور لكبار رجال القضاء من مستشارين وقضاة ونواب عموميين وكبال رجال المحاماة.. وكلها توحي بالمهابة والمكانة العالية التي تحيط كل واحد من هؤلاء في نفوس أبناء المجتمع جميعًا حكامًا ومحكومين، وكانت أكبر أمنياتي أن أتخرج في الكلية وأكون واحدًا من هؤلاء الصفوة، الذين يجمعون إلى العلم التخصص في القانون مكانة اجتماعية بالغة التميز، وكنا منذ دخلنا كلية الحقوق نسمع قصصًا وحكايات تروي كيف تكرم الدولة رجال القضاء وجميع المشتغلين بالقانون، وكيف يلتزم هؤلاء -من جانبهم- صورة فريدة من صور الوقار والترفع عما لا ينبغي أو لا يليق، مبالغين في ذلك إلى درجة تجعلهم بمنأى عن أحاديث الصحافة والإعلام، وبمنأى عن الخوض في سيرتهم أو التعرض لعملهم القضائي.

ودار الزمان دورات عديدة وبالعالم كله، تغيرت بها الأفكار والقيم، وظهرت للسلوك والعلاقات بين أفراد المجتمع أنماط لم يكن كثير منها مألوفًا ولا مقبولًا في ذلك الزمن البعيد القريب، وكان لكل فئة من فئات المجتمع سببها من هذا التغير، ما يُحَب منه ويُستحسن، وما يكره منه ويستقبح.

وكانت المحاماة -ولا تزال- تسمى «القضاء الواقف» إلا أن المحامين يترافعون أمام الهيئات القضائية وهم وقوف، ولكنهم يعدون في نظر القانون ونظر الناس جميعًا ركنًا أساسيًا من أركان نظام العدالة في المجتمع، وركن يتمم ويكمل عمل القضاة الجالسين، ولا يقل عنه جدارة بالاحترام الشديد.

والقضاء بأعمدته كلها معتبر في جميع المجتمعات المتحضرة ركن من الأركان في الحفاظ على الشعور بالعدل والمساواة وبالحرية تحت لواء سيادة القانون، وأن للبيت أركانه والحفاظ على كفاءته وحسن سمعته واستقلاله هدف لا يتصور التفريط في تحقيقه وتعزيزه.

وقد أتيح لي خلال السنوات الأخيرة أن أقف مترافعًا أمام العديد من محاكمنا، الابتدائية ومحاكم الاستئناف ومحاكم مجلس الدولة والمحكمة الدستورية العليا، فرأيت أمورًا تتعلق بالقضاء الواقف، وأخرى تتعلق بالقضاء الجالس، وكلها موضع نظر وتقويم وشكوى من جموع المحامين والقضاة، وإذا كان كثير منها يبدو متصلًا بالجوانب الشكلية… فإن هذه الجوانب تعتبر رمزًا مهمًا معبرًا عن مكانة الهيئة ونظرة المجتمع إليها.

وقد لاحظت خلال السنوات الأخيرة ترديًا مؤسفًا في هذه الجوانب… ومذ أسابيع قليلة توجهت إلى إحدى محاكم الجنح المستأنفة في دعوى مرفوعة ضد أحد السادة الوزراء بصفته الشخصية، فإذا بالجلسة تعقد في غرفة المداولة وليس في إحدى القاعات المتخصصة للجلسات، وهو أمر تحول إلى ما يشبه القاعدة بسبب قلة تلك القاعات، ولكن غرف المداولة تخلو في معظم الحالات من مقاعد للسادة المحامين، فيتزاحمون وقد يتدافعون أمام باب الغرفة أو داخلها، وقد لا يسمع بعضهم نداء الحاجب على رقم قضيته، وهو ما حدث معي أكثر من مرة، وقد يقف بعض هؤلاء -ومنهم نساء وكبار السن- ساعات في انتظار دورهم وهو أمر بالغ المشقة بالغ الإهانة لجموع المحامين.. وكأن أعضاء القضاء الواقف ينبغي أن يظلوا واقفين وألا يجلسوا أبدًا… وإذا غاب التقدير والاحترام مثل هذه الأمور التي قد يعتبرها البعض شكلية وهامشية صعب أن يتحقق احترام موضوعي حقيقي لمن لم يجد له مقعدًا يجلس عليه ويستريح فيه قبل أن يبدأ مرافعته… ولا يدري كيف تسكت نقابة المحامين ومجلس القضاء الأعلى عن متابعة هذه الأمور، أم أنهم يطالبون فلا يستجاب لهم، وهو أمر لا يسع أحدًا قبوله.

فإذا انتقلنا إلى القضاء الجالس، وهو الذي يعلن كلمة الحق والعدل بأحكامه، متحملًا مسؤولية كبرى أمام الله وأمام الناس جميعًا، وفي مقدمتهم أطراف المنازعات القضائية على اختلافها، وجدنا مظاهر شكلية جديدة وأخرى موضوعية تنال من الإطار الواجب الذي يحيط أداء القضاة لأعمالهم.

ومن الظواهر الشكلية التي أرجو أن يتسع لها صدر السادة القضاة والمستشارين، تراجع بعض التقاليد التي لها أهميتها في إيجاد أهميتها في إيجاد جو يؤكد التمييز وعلو المكانة، وأعني ذلك ارتداء الوشاح خلال الجلسات… مما يجر عادة إلى تحلل السادة المحامين من ارتداء روب المحاماة، وهو ما تؤول معه الأمور إلى نوع جديد من التقاليد يغيب معها إحساس المتقاضين والمحامين لخصوصية مجلس القضاء، وذلك الجو المهيب الذي يعلنه حاجب المجلس حين يصيح صيحته المعروفة «محكمة» فيسكن الحاضرون جميعًا، وتملًا الهيبة نفوسهم ويتكلم القانون على لسان القضاة وأعضاء القضاة وأعضاء النيابة والمحامين.

ومن مظاهر غياب الطقوس الشكلية التي عرف بها النظام القضائي في العالم كله أشرنا إليه من عقد أكثر الجلسات في غرف المداولة، وهو ما يغري بالتحلل من الإجراءات الشكلية تحللًا يبلغ أحيانًا مبلغًا يصعب قبوله والارتياح إليه، حيث رأيت بعض السادة المستشارين وهم قلة قليلة، يدخن السيجارة أو الغليون (البايب) خلال الجلسات وينفث الدخان قريبًا من وجوه الحاضرين، وأغراني ذلك إغراءً شديدًا بأن أقارن ذلك بما نشاهده في معظم المحاكم الإنجليزية حيث لا يستطيع ولا يجوز أن يخرج أحد -أي أحد- من قاعة الجلسة حتى وإن كان القاضي مشغولًا بفحص الأوراق والمراجع والمستندات، إلا إذا باشر ثلاثة أمور… أولها أن يصيح بصوت عالٍ قائلًا «مولاي» أو «سيدي القاضي» ثم ينحني انحناءة الركوع الكامل، ثم يتحرك متراجعًا بظهره حتى يخرج من الباب. إن مثل هذه المراسم والطقوس ليست بلا قيمة، بل إن لها دورًا لا يمكن إنكاره في إضفاء الهيبة على مجلس القضاء وجميع المشاركين فيه.

فإذا انتقلنا إلى الأمور الموضوعية، فإن الحديث يطول بما لا يتسع له هذا المقام، وإنما نكتفي بالإشارة إلى أمرين… يتصل أولهما بالقضاء الواقف ويتصل الآخر بالقضاء الجالس:

(1) أما القضاء الواقف … فإن المدخل لإصلاح أوضاعه يستقر في يد النظام السياسي ويد نقابة المحامين. وذلك أن السنوات الأربعين الأخيرة قد شهدت تحول أكثر النقابات في مصر إلى مجالس سياسية يمارس أكثرها العمل السياسي وهي ظاهرة يفسرها الانسداد الجزئي لما يسميه علماء السياسة والقانون الدستوري القنوات الإصلاحية للعملية الديمقراطية فإذا حال التدخل في الانتخابات بأي صورة من صوره دون تعبير تلك القنوات عن الواقع السياسي والاجتماعي، وإذا ضاقت القنوات الشرعية عن استيعاب التطلع المشروع للمشاركة في الحكم من جانب القوى والأحزاب المختلفة لجأ الناس إلى قنوات غير شرعية أو غير مخصصة للتعبير السياسي، وهو أمر تسأل عنه الحكومات في المقام الأول ويدل عليه الانتشار الواسع لظاهرة اشتغال النقابات بالعمل السياسي أكثر من اشتغالها بالنشاط النقابي والمهني.

(2) أما القضاء الجالس، فإن القضايا الموضوعية المتصلة بأدائه لمهمته القضائية، وتدخل بعض القضاة من خلال نواديهم المختلفة وعبر ما يكتبونه في الصحف وما يعلنونه في القنوات التلفزيونية الفضائية وغير الفضائية مشاركة منهم في الحياة السياسية، هذه القضايا اختلفت في شأنها الآراء بين عامة الباحثين من رجال القانون وبين القضاة أنفسهم، والكلام فيها يحتاج إلى دراسة مستقلة نرجو أن نعود إليها في بحث قريب، على أن هناك موضوعًا واحدًا نرى أن الحديث فيه من جانب القضاة متاح ومباح، سواء وقع التعبير عن الرأي فيه على نحو فردي أو من خلال أندية القضاة أو مجالس القضاء الرسمية .. وذلك يشمل كل ما يتعلق باستقلال السلطة القضائية واستقلال القضاة … أما ما عدا ذلك فالأصل فيه أن يعبر القاضي عن رأيه وفكره من خلال ما يصدر عن منصة القضاء من أحكام وأوامر تحكمها المعايير والضوابط القانونية، حتى يرتفع القضاء كله فوق انفعالات السياسة وما تجر إليه من انقسام بين القضاة، وإغراء بعض الناس بالتطاول عليهم، مما ينال -أردنا أم لم نرد- من هيبتهم واستقلالهم، ويفتح أبوابًا عديدة للتدخل في شؤون العدالة خلافًا لما يقرره الدستور.

ولا يقل خطورة عن هذا التجاوز، أن يتعرض القضاة لضغوط من جانب بعض مؤسسات الدولة التنفيذية والشعبية تطويعًا لهم أو سعيًا -غير جائز- للتأثير على قضائهم… إن ذلك إذا وقع يقتل الثقة فيهم وفي قضائهم وفي سيادة القانون في المجتمع، وبغير هذه الثقة يهتز اطمئنان أفراد الشعب على حقوقهم وحرياتهم، وهو اهتزاز لا رجعة عنه إلا بالكف عن السعي بطريقة أو أخرى لتسييس القضاء والأحكام، ويدخل في هذا الترغيب غير المقبول فيما نرى قيام بعض السادة القضاة بالعمل مستشارين للوزراء والمحافظين مع استمرارهم حال انتدابهم للجلوس في منصة القضاء، وأعرف أن أعدادًا كبيرة من السادة القضاة والمستشارين يشغلهم النظر في هذا الأمر بجوانبه المتعددة، وقد يختلفون حوله ولكن الذي أميل إليه بشدة ألا يجمع القاضي بين وظيفة تقديم المشورة للوزراء والمحافظين مرتبطًا عضويًا وإداريًا بمكاتبهم وبين الجلوس على منصة القضاء فهذا عالم وذاك عالم آخر، ولكل منهما طقوسه ونوع علاقاته، والجمع بينهما شديد الصعوبة، ومن شأنه أن يضع القاضي في حرج بالغ لا مهرب منه.

ولعل الظروف المعيشية الصعبة التي يمر بها المجتمع تكون أحد أسباب الترخص في هذا الأمر وقبوله من جانب عدد كبير من السادة القضاة. وفي تاريخ القضاء العربي أن الخليفة العباسي المأمون جعل مرتبات القضاة من عصره أعلى مرتبات في الدولة، فلما كلم في ذلك قال: “أردت أن أعصمهم من السؤال والرشا”؛ وهي حجة صحيحة وحكيمة تحفظ الكرامة، وتعين على النزاهة، وتسد أبواب الإغراء بكل ما لا ينبغي أن يتعرض له حراس العدالة والمؤتمنون على رعاية الحقوق والحريات، وتحقيق سيادة القانون.

لا يخطئ من يقول إن «حقوق الإنسان» هي شعار الـربع الأخير من القرن العشــرين الميلادي. فـقـد نشطت حـركة الـدفاع عن حقوق الإنسان منذ أواسط السبعينيات من هذا القرن نشاطا فاق كل ما سبق لهذه الحركة أن حقّقته منذ نشأتها. وكان هذا النشاط عــــالميًا في انتشاره، غير محدود بحدّ في موضوعاته، فكل ما يخطر على البال من شأن أو شيء أو فكرة تتّصل بحياة الإنسان تحـــــوّلت-في تيار هذا الانتشار-إلى صورة من صور «الحقوق» الإنسانية الجديرة بالحماية. وتوجّهت أنظار أنصار هذه الحــركة المتجدّدة إلى كل ركن من أركان المعمورة ينشئون جماعات أو جمعيات لحقوق الإنسان: تـرصد انتهاكاتها وتنبّه إليها وتنتقـدها، وتنشر الـوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي بها، وتعلن في كل عام موقفا محدّدًا في «تقارير» تنشر على الكــافة، ويـتلقّـاها العــامـلون في مجال حقوق الإنسان، والمهتمون بها بانتظام يبعث فيهم مـزيدًا من الاهتمام ويدعوهم إلى جديد من النشاط في اتجاهي المراقبة والإعلام معًا.

ومنـذ بدأ الحديث في النصف الأول من هذا القرن عن حقوق الإنسان من حيث هـي فكرة مـجرّدة، في مـواجهة أفكار النازيـين والفاشييـن وأضرابهم، ثم من حيث هي نصوص قانونية دولية جسّـدها الإعـلان العـــالمي لـحـقـوق الإنـسـان، والمفكرون الإســلاميون، والــــدعاة والفقهاء، مشتغلون ببيان سبق الإسلام في تقرير هذه الحقوق وإرساء دعائم احترامها استنادًا إلى نصوص ثابتة في القرآن الكريم – لا تقبل التغييـر ولا الحذف ولا الإضافة – ونصوص صحيحة في السنة النبوية الشـريفة تصـلح أسـاسـًا لبـناء متـكامل لإعلان عـالمي لحقوق الإنسان مستمد من الإسلام. وقد صدر هذا الإعلان فعلًا- تتـــويجا لهذا الجهـد الفكـري الضخـم- عن المجلس الإسلامي في أوربا، وسمي بـ: “البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام” وأعلن في 19/9/1981م من مقر اليونسكو في العاصمة الفرنسية: باريس. وهذا البيان يضمّ نصوصا بلغ عددها ثلاثة وعشرين نصّا كلّها مؤيّد بسند شرعي من القرآن الكريم أو السنة الصحيحة.

وعلى هذا النحو: محاولة التأصيل من النـاحية المـوضـوعية للمفاهيم التي تتناولها حقوق الإنسان بنصوص القرآن والسنة، وبفهم المفسرين والفقهاء، جرت معظم الدراسات التي تناولت حقوق الإنسان وموقف الإسلام منها. ولا شكّ أن في كثير من هذه المحاولات كثيرًا من العمل العلمي الجاد الذي يستأهل كل تـقـديـر. ولا شك أن في كثير من هذه المحاولات ما يمكن أن يعد «كشفا» لحقائق علمية إسلامية أوشك أن يطويها النسيان، أو يقضـي عليها الإهمال الذي ترتّب على تنحيـة الشريعة الإسلامية في جل أوطانها، عن حكم الحياة اليومية للمؤمنين بها. ولكن الأمر الذي لم يحظ بعد بحقّه من العناية، بل لعله لا يزال يلقى معارضة تقوى وتضعف بحسب اتجاهات الـرياح المحية والعالمية، هو أمر الشكل، أو أمر «الآليات» -إن صحّ التعبير- التي يمكن بها أن تضبط ممارسة الدفاع عن حقوق الإنسان.

وفي تقــديـرنا أن الجـانب العـملـي لممارسـة الحقوق المصـطلح على تسمـيتها بحقوق الإنسان، والإطار التنظيـمـي لمراقبة مدى الالتزام بها يمثّلان في الوطن العربي والعالم الإسلامي-بوجه– موضوعا ذا أهـمية أكبر بكثير من الأهمية التي يجب أن تعطى للجانب النظري المـوضـوعي المتـمثّل في إثبات قبول الإسلام لهذه الحقوق أو سـبقه في تـقريرها. لأننا مهما أسهبنا في هذا البيان النظري، الذي هو حجّة لنا، فإن البيان العمـلي والالتزام الفعلي بمضمون هذه الحقوق، ومقتضاها، ونتائجها في علاقة الفرد بالجماعة أو بالسلطة، هو الذي يؤكّد شهادة البيان النظري، أو ينفيها، فيحولّه من حجّة لنا إلى حجّة علينا.

ومن الإنصاف أن نسـجّل هنا السبق العـالمي في مجال تنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان. ففي العالم عدد غر قليل من المنظمات التي تُعنى بهذا التنظيم، وتتابع قضاياه في معظم الأقطار، ومن بينها أقطار الوطن العربي ودول العالم الإسلامي. فهناك منظمة العفو الدولية، وهي من أوائل المنظمات العاملة في هذا المجال، وأعضاؤها منتشرون في نحو مـائة وخمسـين بلـدا من بـلـدان العالم، وعـددهـم يـربـو على سـبعمـائة ألف عضو، ولها أكثر من 4200 مـجموعة محـلية في ثــلاثة وسـتين قطرًا([1])، وهـي تهتم أسـاسـًا بمتابعة حالات «سجناء الـرأي». والأمـانة العامة لمنظمة العفو الدولية مقـرّها العاصمة البـريطانية: لندن، وهـي تصـدر تقـريرًا سـنويا بعدة لغات عن حالة حقوق الإنسان وانتهاكاتها في غالبية بلدان العالم، وتصدر كلما اقتضت الظروف تقارير عن بلدان معينة، ولمنظمة العفو الدولية مجموعات محلية في كل من مصر وتونس واليمن والكويت (حتى عام 1993 كما سـيأتي) ولها مكانة دولية مـرموقة في الــدفاع عن حقوق الإنسان، وبــوجه خاص عن حقوق المطارديـن أو السجناء بسبب آرائهم أو عقائدهم.

وهناك منظمة المادة (19)، أو المركز الدولي ضد الـرقابة، وهي تستمـدّ اسمها من نص المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يقرّر أن «لكل إنسان الحق في حريّة الـرأي والتعبير، ويشمل ذلك حـــــريّة المعتقد دون تــــدخّل، والحقّ في السعي إلى، والحصـول على، المعلومات والأفكار وتبادلها عبر مختلف وسائل دون اعتبار للحدود». وقد أنشـأت المنظمة شـبكة واسعة من المنظمات والأفـراد الــــذين يؤمنون بأهدافها ويقومون بمعاونتها في نشاطها ولو لم يكونوا من بين أعضائها. ولمنظمة المادة (19) سـكـــــرتارية في لندن تقوم بتـلقي المعـلــــومات وتنسيقها، وتصـدر تقـريـرا سنـويا عن حـالـة الــرقابة على المعلـومات والأفكار، ووقائع كبت الحـريات في مختلف بلدان العالم. وتقدم تقارير المنظمة الدورية وغير الدورية – التي تصدر في مناسبات بعينها – إلى لجنة حقوق الإنسان التابعة لـلأمم المتحدة. وينصبّ اهتمام المنظمة على الكشف عن الـــــرقابة علـى الــرأي والمعتقدات والتعبير عنها بـالـكتـابة والنشر والإعـلام وتعنى – لذلك – بمناصرة ضحايا هذه الرقابة في مختلف أنحاء العالم.

ومنذ عام 1977م أنشئت في وزارة الخارجية الأمـــريكية إدارة لحقوق الإنسان بموجب قرار رئاسي (أصدره الـرئيس الأسبق جيـمـي كارتر) وصادق عليه الكونجرس. وتعدّ هـذه الإدارة تقريرًا سنويًا عن حالة حقوق الإنسان في مختلف دول العالـم تستقي مادته من تقارير السفارات الأمـريكية ومن غيرها من المصادر، ويقدّم إلى الكونجرس الأمـريكي. وقد اشتـرط القرار الـــرئاسي المـــذكور الـــربط بين المسـاعـدات الاقتصادية والفنية وغيـرها التي تقدّمها الـولايات المتحدة لدولة ما، وبين مدى احترام هذه الدولة لحقوق الإنسان»([2]).

وفي الولايات المتحدة، أيضا، منظمة: “محـــــامون من أجل المحـــامين وهـي فرع من منظمة أكبر هي: محـــامون من أجل حقوق الإنسان، وأعضاء المنظمتين من المحـــامين المــؤمنين بحقوق الإنسان، وتضمّ المنظمة الثانية على وجه خاص المحامين المؤمنين بوجوب الـدفاع عن الحقوق المهنية والإنسانية لزملائهم. وتقـارير المنظمة لا تقتصر- كما يوحي اسمها- على العناية بقضايا المحـامين فحسب، ولكنها تشمل غير المحـامين الذين يكونون ضـحايا لانتهاك حقوقهم الإنسانية. وللمنظمة اهتمام خاص بالوضع القانوني لـلأقليات العرقية والدينية والقومية. وقد حظيت بصفة العضو المـراقب في لجنة حقوق الإنسان التـــابعة لـلأمم المتحدة، وبصفة العضو الاستشاري لـدى الكــونجرس الأمريكي.

ولـلأمم المتحدة لجنة خاصة بحقوق الإنسان أنشئت بمقتضى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وتوجب المادة (40) من هذا العهد على الدول الأعضاء الأطراف فيه تقديم تقارير عن التدابير التي اتخذتها لإعمال الحقوق المعترف بها في هذا العهد الدولي، وعن التقدّم الذي يتحقّق في مدى التمتّع بهذه الحقوق. وتتكوّن هذه اللـجنة من ثمـــانية عشر خبيرا يعمـلون بصفـتهم الشخصية – ولا يعملون باعتبارهم ممثّلين لبلادهم – وتقع على هذه اللجنة مسؤولية مـراقبة تطبيق الحقوق التي يتضمّنها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ومتابعة التقدّم الحاصل في التمتّع بها[3]. وقد كان من نتـــائج مـــؤتمر فييـنا (14-25 يـــونيو 1993م) المعروف بـ«المؤتمر العالمي الثاني لحقوق الإنسان» أن تقرر أن تسعى الأمم المتحدة لإنشاء وظيفة «مفوض سام» لحقوق الإنسان. وقد صـدر قرار بذلك من الجمعية العامة في دورتها رقم 48 المنتهية في 20/12 1993م وقد بدأ هذا المفوض عمله خلال عام 1994م.وقد نصّ القرار على: إنشاء منصـب المفوّض الســـــــــــامي لحقوق الإنسان، وعلى أن يكون هذا المفوّض:

(أ) شخصا ذا مكانة أدبية رفيعة وعلى درجة سامية من النزاهة الشخصية، ويتمتّع بالخبرة الفنية، بما في ذلك الخبرة في ميدان حقوق الإنسان، ويتوفّر لديه من المعرفة والتفهّم للثقافات المتنوعة ما يلزم لأداء واجبات المفـوض السامي على نحو نزيه وموضوعي وغير انتقائي وفعال.

(ب) أن يعـينه الأمين العام لـلأمم المتحدة وتـوافق عليه الجمعية العامة مع إيلاء الاعتبار الواجب للتناوب الجغرافي، ويشغل منصبه لفترة محـدّدة مـدّتها أربع سنوات مع إمكانية التجديد لفترة محدّدة واحدة أخرى مدّتها أربع سنوات.

(ج) أن يكون برتبة وكيل أمين عام.

ونص القرار على أن يقوم المفوض السامي بما يأتي:

(أ) أن يعـمل في إطار ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وسائر الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، والقانون الدولي، بما في ذلك الالتزام ضمن هذا الإطار، باحترام سيادة الدول وسـلامتها الاقـليمية وولايتها القضـــائية الداخلية، وبتعـــزيز الاحترام والمراعاة العامين لجميع حقوق الإنسان، تسليما بأن تعزيز جميع حقوق الإنسان وحـمايتها يشكّل، في إطار مقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه، شاغلا مشروعا للمجتمع الدولي.

 (ب) أن يستــرشد بـالتسلـيم بأن جميع حقوق الإنسان – المـــدنية والثـقـافية والاقتصادية والسيـاسـية والاجتمـاعية – عالمية مترابطة ومتداخلة لا تقبل التجزئة، وبأنه مع وجوب مراعاة أهمية الخصائص المميّـزة الـوطنية والإقـليمية ومختلف الخـلفيات التاريخية والثقافية والدينية، فإن من واجب الدول، بصـرف النظـر عن نظمها السياسية والاقتصادية والثقــافية، أن تعزّز جميع حقوق الإنسان والحــــريات الأساسية وأن تحميها.

(ج) أن يسـلم بـأهـمية تعـزيز تنمية متوازنة ومستدامة للناس جميعًا، وبـأهمية كفـالة إعمال الحق في التنمية على النحو المحدد في إعلان الحقّ في التنمية.

والمفوض السامي هو مسؤول الأمم المتحدة الذي يتحمّل المسؤولية الرئيسية عن أنشطة الأمم المتحدة في ميدان حقوق الإنسان في ظل توجيه وسلطة الأمين العام، وفي إطار جملة اختصاص وسلطة ومقررات الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ولجنة حقوق الإنسان، وقد نصّ القرار المشار إليه على أن تكون مسؤوليات المفوض السامي كما يلي:

(أ) تعزيز وحماية تمتّع الناس جميعا تمتّعا فعالا بجميع الحقوق المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

(ب) تـنفيذ المهام التي توكلها إليه الهيـئات المختصة في منظومة الأمم المتحدة في ميدان حقوق الإنسان وتقـديم التـوصيات إليها بغية تحسين وتعزيز جميع حقوق الإنسان وحمايتها.

(ج) تعزيز وحماية إعمال الحقّ في التنمية وزيادة الدعم المقدم لهذا الغرض من الهيئات ذات الصلة في منظومة الأمم المتحدة.

(د) تـوفـير الخـدمات الاسـتـشـارية والمساعـدة التقـنية والمـالية عن طريق مركز حقوق الإنسان.

 (هـ) تنسيق برامج الأمم المتحدة التثقيفية والإعلامية ذات الصـلة في ميدان حقوق الإنسان.

(و) أداء دور نشط في إزالة العقبات الـراهنة والتصدّي للتحديات المـاثلة أمام الإعمال التام لجميع حقوق الإنسان، وفي الحيـلـولة دون استمرار انتهاكات حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، على النحو المحدّد في إعلان وبرنامج عمل فيينا.

(ز) إجـراء حوار مع جميع الحكـومات تنفيذا لولايته بغية تـأمين الاحترام لجميع حقوق الإنسان.

(ج) زيادة التعاون الدولي من أجل تعــــزيز جميع حقوق الإنسان وحمايتها.

(ط) تنسيق الأنشطة الـرامية إلى تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها في منظومة الأمم المتحدة جميعها.

(ي) ترشيد أجهزة الأمم المتحدة في ميدان حقوق الإنسان وتكييفها وتقويتها وتبسيطها، بهدف تحسين كفاءتها وفعاليتها.

(ك) تولّي الإشراف العام على مركز حقوق الإنسان.

وتضـمّن الـقرار-أيضًا- أن تكون جـنيف هـي مقـر المفوض السامي وأن يقدّم تقريرا سنويا عن أنشطته إلى لجنة حقوق الإنسان وإلى الجمعية العامة عن طريق المجلس الاقتصادي والاجتماعي([4]). وقد كان معروضا على مـــؤتمر فييـنا، كــــذلك، فكـرة إنشاء محكمة دولية لحقوق الإنسان، ولكن لم يكتب لهذه الفكرة النجاح، بل إنها وُوجهت بمعارضة شديدة من دول عديدة، لأسباب غير خافية([5])!

وهناك أخيـرًا، في الـــذكر لا في الأهمية، المنظمة العـــربية لحقوق الإنسان، وقد تأسّست في قبرص(!) يوم 1/12/1973، وتتّخـذ مقرًا رئيسًا لممارسة نشاطها في العاصمة المصرية: القاهرة، على الـرغم من عدم التصريح لها بالعمل بشكل رسـمي واضح، والجدل القانـونيّ المستمر منذ افتتاح نشاطها حول شرعية وجودها في القاهرة، وهو جدل يزداد، وتهديـد لها يتكـرّر، كلمــا اتّخـذت مـواقف حـادّة من انتهاكات حقوق الإنسان في مصر([6])! وتبـنّت هذه المنظمة منذ تــأسيسها الإعلان العــالمـي لحقوق الإنسان والعهود الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسة، والعهود الدولية الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وقد أصبحت المنظمة من عام 1983م عضوا مـراقبا في اللجنة الإفـــريقية لحقوق الإنسان والشعوب (المنـبثقة عن منظمة الــوحدة الإفـــــــــريقية) وأصبحت عضوًا استشاريًا في المجلس الاقتصادي والاجتماعي التـابع لـلأمم المتحدة، ولها صلات وثيقة مع عـديد من منظمات حقوق الإنسان في العالم كله[7]. للمنظمة فروع في معظم البلدان العربية تعاني أكثر ما يعانيه مقــرها الــرئيسي، وكان آخر صور هذه المعـاناة حل فـرع المنظمة في الكويت تطبيقا لقرار صدر في أواخر عام (1993م) بحلّ الجمعيات غير المـرخّصة ومن بينها فرع المنظمة العربية وفرع منظمة العفو الدولية. وللمنظمة العربية فروع ومـراسلون في بعض البلاد الأوربية وهي تصدر تقريرًا سنويًا يستند إلى فروعها وأعضائها الأفراد، وتقارير المنظمات الدولية الأخرى المعنية بحقوق الإنسان. وأهـم من التقـرير السـنوي -في تقديرنا- النشرات غير الدورية التي تصـدرها المنظمة في المناسبات التي تستدعي ذلـك والبيانات الخاصة بانتهاكات معينة ترى التنبيه إليها.

وثمة منظمات أخرى معنية بحقوق الإنسان في الوطن العربي بعضها محـلّي مثل المنظمة المصــرية لحقوق الإنسان، وبعضها غير قطـري مثل اتحاد المحـامين العرب واتحاد الحقوقيين العرب، والاتحاد العام للصحفيين العرب. ولكن الـدور الأكبر عربيا-بلا شك- هو دور المنظمة العربية لحقوق الإنسان.

والسؤال الذي يطـرح نفسه بعد هذا العرض السـريع لمسألة تنظيم الـــدفاع عن حقوق الإنسان هو: مدى مشروعية هذا التنظيم بـالنظر إلـى الأحكام الإسلامية الخاصة بحقوق الإنسان من ناحية، وبالعمل الاجتماعي بوجه عام من ناحية أخرى.

وابتداءً تقـرّر أننا نرى وجوب هذا التنظيم لا مجرّد جوازه.

ويستند هذا الرأي إلى النظر في ثلاثة واجبات تنطق بها النصوص الإسلامية، نطقا صريحا ثابتا بالقرآن الكريم والسنة النبوية: الواجب الأول هو واجب الأمـر بالمعروف والنهي عن المنكر، والواجب الثاني هو واجب التعاون على البر والتقوى، والواجب الثالث هو واجب منع الظلم. ويستند أيضا إلى التقـدير الفقهي لفروض الكفـاية التي تضم جلّ أشكال العمل الاجتماعي. ولا تسمح ظروف مثل هذه الورقة بأكثر من إشارة متعجّلة إلى فكرة «وجوب» التنظيم الذي يتولّى الدفاع عن حقوق الإنسان دون دخول في تفاصيل كيفية هذا الدفاع والآليات العملية التي يمكن اصطناعها لتـحقـيقه، لأن هـذه التفاصيل وتلك الآليات تقتضي دراسة خاصة، فضلا عن كونها متغيّرة من قطر إلى آخر وقابلة للتغيّر والتطوّر من زمن إلى زمن.

ولعـلّ الفارق الجوهري بين نظرة الإسلام إلى حقوق الإنسان، ونظرة الحضارة الغربية إليها هو أن الحضارة الغربية حقّقت أعظم انجازاتها في هذا المجال بتحويل حقوق الإنسان من حقوق طبيعية إلى مطالب سياسية، بينما يجعلها الإسلام- في نصوصه الثابتة –حقوقا ربانية([8]). أو بعبارة أخرى- تحدّد هذا الفرق- فإن الشريعة الإسلامية تنظر إلى حقوق الإنسان على أنها فرائض إلهية وواجبات شرعية على حين أن الحضارة الغربية تراها مجرد «حقوق». وأحد الفروق الجوهرية بين الحق والواجب، أن الأول قابل للتنازل عنه وممارسته ليست ملزمة، بينما الثاني لا يستطيع صاحبه إسقاطه، ويأثم إن فرط فيه أو تنازل عنه([9]). وهـذا الفارق يقود دون عنـاء إلى الـــــــــربط بين واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين تنظيم الـدفاع عن حقوق الإنسان، إذ المعروف في الشـريعة هو كل ما ينبغي قـوله أو فعله وفقا لأحكـامها. والمنكر هو كل ما ينبـغي اجتنابه وفقا لهذا الأحكام. ويستوي في ذلك أن يكون ما يجب الأمر به أو النهي عنه منصوصا عليه صراحة في مصادر هذه الشريعة أو أن يكون مأخوذا من روح النصوص الشرعية وفحواها([10]).

ونصوص القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية توجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على الجماعة، كما توجبه على الأفراد، ففـي القرآن الكريم قول اللّـه تعالى: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾. (آل عمران: 104) والأمة الإسلامية ممـدوحة في الكتاب العزيز بقول اللّـه تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾ (آل عمران: 110). والأمر بالعدل والإحسان في قول اللّـه تعالى: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون﴾ (النحل:90) هذا الأمر بــــــالعدل يتضـمّن إجمــــــالًا لتفصـيل كل أمر بالمعروف وكل نهي عن المنكر. وأحاديث الـــرسول ﷺ في الأمـر بـــالمعروف والنهي عن المنكر أشهر من أن تـذكر وهـي مـروية في الصحيحين وغيــرهما. ويكفي أن نشير إلى قوله ﷺ: «من رأى مـنـكـم منكرا فليـغيّره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»([11]).

ولـــــــــلإمـام محمد عبده كلام رائع في وجوب تنظيم الأمـر بالمعروف والنهي عن المنكر تنظيما جماعيا، يضمن استمرار العمل بالمعروف واستمرار النهي عن المنكر، ذكره في تفسيره لقول اللّـه تبارك وتعالى: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف﴾ … الآية، حيث قال: «أما هذه الآية فإنها تفرض أن يكون في الناس جماعة متّحدون وأقوياء يتولّـون الـدعوة إلى الخير، والأمـر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو عام في الحكام والمحكومين، ولا معروف أعرف من العدل، ولا منكر أنكر من الظلم»([12]). وعلى ذلك فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو، بتعبير الإمام الغزالي،» القطب الأعظم في الــدين والمهم الذي ابتعث اللّـه له النبيين أجمعين…»([13]) يوجب أن يكون بين المسلمين من ينظمون أنفسهم للدفاع عن حقوق الإنسان على نحو ما وصف الإمام محمد عبده.

والمبـدأ الثاني الذي يؤكّد ما نعتقده من وجوب تنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان هو المبدأ التعاون على البر والتقوى المقرّر في قول الله تعالى: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب﴾. (المائدة:2) وهـذه الجملة الكريمة في ختام الآية الثانية من سورة المائدة، مع آيات أخرى ممـاثلة في مواضع أخرى من القـرآن الكريم، تـوجب التعاون على «البر» الذي هو اسم جـامع لكل خير، أو بـتعبـير ابن عبـاس رضي الله عنه: «البـرّ فعل ما أُمـرت به، والتقوى تـرك ما نُهيـت عـنه، والإثم هو المعـــــاصي، والعدوان هو تعــدّي حـدود اللـه تبـارك وتعالى»([14]). والتعاون في هذا النص أمر بالإعانة يؤديها بعض المؤمنين لبعض، وهي تكون من الجماعة للفرد ومن الفرد للجماعة، فإذا تركوها كانوا آثمين. وإذا كانت حقوق الإنسان في نظر الإسلام- كما قدّمن فروضا واجبة- فإن التعاون على تحقيقها تعاون على البر لا ريب فيه، والتعاون على منع انتهاكها تعاون على منع الإثم والعدوان بلا مـراء.

والمـبدأ الثـالث الذي يـــؤكِّد ما ذهبنا إليه من وجوب تنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان هو مبدأ منع الظلم وهو مبدأ إسلامي أصيل فاللّـه تبارك وتعالى يأمرنا بالعدل والإحسان ويتوعّد الظلمة والظالمين. في مثل قوله تعالى: ﴿إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير حق أولئك لهم عذاب أليم﴾ (الشورى: 42). ويعد المظلومين حسن العاقبة في مثل قوله تعالى: ﴿والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون﴾ (النحل: 40) وينذر القـرى الظالمة بالهلاك في مثل قوله تعالى: ﴿وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد﴾ (الحج:45). وقوله تعالى: ﴿وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا﴾ (الكهف:59). وفي صحيح السنة النبوية قول الرسول ﷺ: «اتّقوا الظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة». وقوله ﷺ: «إن الناس إذا رأوا الظالم ثم لم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم اللّه بـعـقاب من عنده»([15]).

وفي هـذه الأحــاديث وأمثــالها نرى الخطــاب موجّهـا إلى جمـاعة المسلمين، والحديـث عن «الناس» بلفـظ الجمـع يؤكـد أن العمـل في هذا الشأن عمل جماعي لا يقوم به إلا مجموع أفراد يصدعون بالأمر بالنبوي الشريف، ولم يأت هذا الأمر على هذا النحو إلا إيذانا بأن «الفرد» مهما بلغ تأثيره لا يستطيع أن يصنع في هذا الشأن صنيع الجماعة. ومن هنا كان النظر الفقهي الصحيح إلى فروض الكفاية على أنها أفضل في الأداء من فروض الأعيان، وأولى بالتقديم عند التعارض بينهما. لأن نفع فروض الكفاية يصيب الجماعة ونفع فرض العين يناله من يؤديه، والإثم في ترك فروض الكفاية يلحق الكافة، بينما يقتصر الاثم في ترك فرض العين على مكلف واحد([16]).

وفي صحيح السنة واقعة تؤكّد ذلك كله، تلك هـي رواية الـرسول ﷺ لقصة «حلف الفضول». فقد روى أصحاب السير أم رسول اللّـه ﷺ قال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جــــدعان حلفا، لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردّوا الفضول على أهلها وألا يعزّ ظالم مظلوما» (أي يغلبه) وفي رواية …» ما أحبّ أن لي به حمر النعم ولو دعيت به في الإسلام لأجبت»([17]). وقد كان من شأن هذا الحلف أن بعض ذوي الغيرة من أهل مكة ساءهم أن بعض كبار القوم فيهم يستبيحون ظلم الغريب ويأبون أن يؤدّوا إليه حقه فاجتمع هؤلاء الرجال، وكان فيهم بعض أعمام رسول اللّـه ﷺ، وتعاقـدوا وتعاهــدوا باللّـه ليكونـن يدا واحدة على الظالم في نصرة المظلوم، أو تعاهــدوا «ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى تردّ عليه مظلته» فسمّت قريش ذلك الحلف حلف الفضول[18]. وفي السير أيضا أن أصحاب رسول اللّـه ﷺ لم ينكروا على من دعا بحلف الفضول –وهو الحسين بن علي رضي الله عنه- حين ظلمه بعض القوم حقه فقال له: «لتنصفني أو لأقومن في مسجد رسول اللّـه ﷺ ثم لأدعون بـحلف الفضـول، فقـال جـمع من الصــحابـة والتابعـين: لنقومن معه فلننصفنه -أو حتى ينصف- أو نموت جميعا»([19]). وكأن هؤلاء الصحابة والتابعين أرادوا الاستغاثة بمنظمة الدفاع عن حقوق الإنسان آنذاك، ولم يجـدوا في ذلك حرجا بل وجده أهل الغيـرة منهم واجبا ولو قدموا في سبيل أدائه حياتهم.

فتظــــاهـرت من ذلك كله: نصوص القرآن الكريم، ونصوص السنة النبـوية، وخبـر النـبي ﷺ عن حلف الفضـول وصنيع الصحـابة رضوان اللّـه عليهم، وتقديم جمع من الفقهاء، ذوي النظر الاجتماعي الثاقب، فروض الكفاية على فروض الأعيان عند التعارض- تظاهرت الأدلة، من ذلك كله، على وجوب تنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان، ولم يمنع من ذلك في عصـر الصحـابة رضي الله عنهم قيام الدولة على الشرع الحنيف ولا وجود قضاة يولّيهم الحاكم أمر فضّ المنازعات بين الناس. فإذا قيل اليوم إن تكوين جماعة للدفاع عن حقوق الإنسان أمر واجب، مع بعد العهد بين عدل العصر الإسلامي الأول وبساطته وتعقّد حياتنا وتنوّع صور انتهاك الحقوق التي قد تصيب الفرد والجماعة، وتكاثر الأمور التي أصبحت العناية بها عناية بأنواع جديدة من الحقوق الإنسانية، على نحو ما يتبيّـن من الاختصـاصات التي نيطت بالمفوض السـامي لحقوق الإنسان من قبل الجمعية العامة لـلأمم المتحدة التي تشارك في عضــويتها الدول الإســلامية جميعا، وحــاجة بعض هـذه الحقوق إلى تخصّص دقيق مثل الحقوق المتعلّقة بــالصحة، والبيئة والعمل وغيرها….إذا قيل اليوم في ظل هذه الظروف جميعا إن تنظيم الحقّ في الدفاع عن حقوق الإنسان، وتنظيم وسائل مراقبة الالتزام بما فـــــرضه اللّـه له من هـذه الحقوق، أمـر واجب، فإن هذا القول لا يكون مجافيًا لنصوص الشرع بل يكون متّفقا معها مستلهما روحها. والقول بغير ذلك لا يعيبه محض الخطأ الفقهي، فهذا لا يسلم منه أحد مهما بذل من جهد وأوتي من بصـيرة، ولكنه يعاب لخطورته التي تتمثّل في تصويره الإسلام الحنيف، الصالح لكل زمان ومكان، عند أهل هذا الـزمان في مختلف الأماكن التي يعيش فيها المسلمون، بصورة لا تتّفق مع حقيـقـته، وتجعله أقلّ من غيره من النظم البشرية قدرة على الإنصـاف، وإحقاقا للحقّ، وإبطالا للباطل، وإقامة للعدل الذي به قامت السماوات والأرض جميعا[20].

وجامع ما ننتهي إليه في هذه العجالة أن الإسلام الحنيف كما سبق إلى تقرير الحقوق الإنسانية من حيث موضوعها على نحو ما فصّلها البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام، سبق إلى إيجاب تنظيم الدفاع عنها بصورة تحقّق في الواقع العملي-لو طبّقت التطبيق الصحيح- وضعًا لحقوق الإنسان أفضل كثيرًا مما هي اليوم عليه في الوطن العربي والعالم الإسلامي.

واللّـه تعالى جده. أعلم وأحكم.

________________________

المصدر: محمد سليم العوّا، في: ندوة “حقوق الإنسان في الإسلام”. لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 2004، ص399-428، http://doi.org/10.56656/100095.08.


([1]) هذه المعلومات والمعلومات التي تليها عن سائر المنظمات تعتمد أوضاعها حتى شهر يونيه 1995.

([2]) للعــــربي المسلم أن يقول هنا: أفلح إن صدق! فإن الواقع ليشهد أن أكبر الدول حظوة في تلقي المساعدات الأمـريكية: إسرائيل، هي أعظمها انتهاكا لحقوق الإنسان المتمثّل في شعب كامل هو الشعب الفلسطيني، ثم تتوالى المواقف الأمـريكية من البوسنة، ومن مسلمي الهند، ومن الصومال، ومن الجزائر، وغيرها، لتثبت أن القول لا يصدق العمل.!!

([3]) انظر مثالا لعمل هذه اللجنة في: “المنظمة المصرية لحقوق الإنسان: وجها لوجه”، (الرد على تقرير الحكومة المصرية إلى اللجنة) القاهرة، 1993.

([4]) «قرار الجمعية العامة لـلأمم المتحدة رقم 48/141 الصادر في الجلسة العامة رقم 85 المعقودة في 20/12/1993م في دورتها الثامنة والأربعين».

([5]) راجع ورقة الدكتور محمد حمد عمران عن حقوق الإنسان بين النظرية والتطبيق المقدمــة إلى “ندوة جمعية الحقوقيين بالإمارات العربية المتحدة”، ديسمبر 1993، ص3-4.

([6]( وإنشاء المنظمة في قبرص دليل على الحاجة إلى تأصيل «تنظيم» الدفاع عن حقوق الإنسان في الفكر السياسي العربي والإسلامي المعاصر.

(([7] التقـرير السنوي لمجلس أمناء المنظمة «عشر سنوات في المواجهة 1983 – 1993»، القاهرة، 1 و2 ديسمبر 1993.

([8]) سيف الدولة، عصمت، الإسلام وحقوق الإنسان، التعارض والتوافق، منـبر الحوار، العدد 9 سنة 3 (1408هـ/ 1988م)، ص33.

([9]) عمارة، محمد، الطيب والخبيث في حقوق الإنسان، العدد سالف الذكر من مجلة منـبر الحوار، ص 40.

(([10] العوا، محمد سليم، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، ط7، دار الشروق، القاهرة – مصر، ص 155.

([11]) صحيح مسلم مع شرح النووي، ج2، ص21- 24.

(([12] رشيد رضا، محمد، تفسير المنار، (وهو تفسير الأستاذ الإمام محمد عبده)، الجزء4، ص45.

(([13] الغزالي، محمد، إحياء علو الدين، ج2، ص 269.

([14]) ابن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير، الجزء4، ص45.

([15]) صحيح سند أبو داود لـلألباني، ج3، ص 818، برقم 3644.

(([16] راجع: العواّ، محمد سليم، المـرجع السابق ذكره، ص 172 – 173. وتفضيل فرض الكفاية هو قول الإمام الإسفرايينـي وإمام الحرمين الجويني وأبيه، ونسبه ابن حجر الهيثمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر إلى: جمع من العلماء.

(([17] سيرة ابن هشام، القاهرة، 1914، ج1، ص90، والسيرة النبوية للندوي، بيروت، 1981، ص127، وغيرهما من كتب السيرة.

([18]) وقد جاء في سبب التسمية أن ذلك الحلف كان الحلف الثاني، سبقه اتفاق ثلاثة من جرهم وهم الفضل بن فضالة والفضل بن وداعة والفضل بن قضاعه، سيرة ابن هشام، الجزء1، ص91.

(([19] سيرة ابن هشام، المصدر السابق، ص 93.

(([20] قارن ورقة الدكتور عبد اللّـه النعيم المقدمة إلى «ندوة اتحاد المحامين العرب (المكتب الدائم) تونس، ديسمبر، 1992» وتعليق الدكتور محمد سليم العوّا عليها في الاجتماع نفسه.

يشغل مالك بن نبي؛ كما يستنتج القارئ لمؤلفاته العارف بسيرة حياته؛ موقعًا خاصًا في الفكر الإسلامي الحديث. ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة إن قلنا إن هذا الفكر يشكل مدرسة خاصة من مدارس الاتجاه الفكري الإسلامي المعاصر.

مالك بن نبي هو أولًا نتاج لأطول تجربة خاضها مجتمع مسلم مع الاستعمار، وهي تجربة الجزائر، وهو ثانيًا: استمرار للتيار الإصلاحي الذي قاده في مصر الشيخ محمد عبده وتلاميذه، وفي الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس و”جمعية العلماء”، ثم هو كما يخبرنا في سيرة حياته “مذكرات شاهد للقرن” تأثر في شبابه كثيرًا بالدعوة السلفية التي جاء بها الشيخ محمد عبد الوهاب وسميت بالوهابية لدرجة أنه عقد العزم على السفر إلى الحجاز؛ ولكن العراقيل البيروقراطية هي التي حالت دون تنفيذه لعزمه في الثلاثينات من القرن العشرين، وهذه القاعدة الفكرية التي انطلق منها مالك بن نبي: إصلاحية عبده وبن باديس والدعوة السلفية في الجزيرة العربية، تفيدنا في فهم توجهه الفكري العام. ثم من بعد ذلك كان مالك بن نبي مشاركًا في التغيرات السياسية والأيديولوجية في العالم الإسلامي؛ وفي المشرق العربي على وجه الخصوص.

أن تكون ابن مجتمع مستعمر بل تم احتلاله من قبل الاستعمار قبل أن تولد بعشرات السنين، فهذا يعني أنك ستطرح أولًا وقبل كل شيء على نفسك مهمة تمييز نفسك كثقافة مستقلة، وفي الحقيقة كان الإسلام عند بن نبي بديهة، بل إن المستعمر لم يكن يسمي أهل الجزائر بأي اسم قومي آخر غير الإسلام، ففي الجزائر كان هناك “فرنسيون” و “مسلمون” (وهذا ما نراه في وثائق تلك المرحلة وكتاباتها) والأمر الذي واجه بن نبي إذًا ليس مسألة نزاع داخلي على السلطة مع تيار علماني وطني -على الأقل في القسم الأعظم من حياته الذي شهد أهم كتاباته، وهو القسم الذي سبق استقلال الجزائر- بل هي مسألة صراع مع استعمار غريب وفي هذا الصراع طرح بن نبي على مجتمعه مهمة النهضة الحضارية التي تخلصه من القابلية للاستعمار وصولًا إلي الخلاص من الاستعمار نفسه. ومن هنا لم يواجه بن نبي مشكلة تطبيق الشريعة الإسلامية في الدولة الوطنية، بل واجه مشكلة نهضة حضارة الإسلام من سباتها العميق. إن ميزة مدرسة مالك بن نبي التي تهبها طابعها الخاص في مدارس الفكر الإسلامي المعاصر هي أنها تركز على مشكلة الحضارة الإسلامية وليس على مشكلة السلطة السياسية. وقد شارك مالك بن نبي أحيانًا في جدالات مع المستشرقين بشأن ادعائهم أن الإسلام بالذات هو مصدر تخلف المسلمين. وبنظرته الحضارية ما انتابه الشك قط في الحقيقة التي تقول إن الإسلام هو -على العكس- عامل نهضة وإن المسلمين ينحطون بقدر ابتعادهم عنه.

ولكن الفرق بينه وبين المدارس الإسلامية التي ظهرت من الستينيات فصاعدًا أنه لم يواجه مشكلة ابتعاد الدولة الحديثة عن الشريعة بل استمر في المدة القليلة التي عاشها بعد الاستقلال في الاطمئنان إلى أنه لا خطر على الإسلام نفسه، وإنما الخطر هو في استمرار المسلمين في وضع الانحلال الحضاري.

وفي رأيي أن طريقة مالك بن نبي في طرح مشكلة المسلمين كمشكلة حضارة ومجتمع ودعوته المجتمع الإسلامي للنهوض بعمله الخاص الدؤوب ودون انتظار نيل الحقوق من طرف خارجي هي طريقة قيمة جدًا نحتاج إليها هذه الأيام، حين نرى أن من الإسلامين من يمحور كل نشاطه حول هدف مطالبة السلطة بحقوق أو قوانين ويترك مهمة الإصلاح الاجتماعي مؤجلة بانتظار تطبيق الشريعة الإسلامية! إن مالك بن نبي في رأيي يعلمنا أن تطبيق الشريعة هو واجبنا، وعلينا أن نشرع به فورًا في أوسع أبوابه، وهو باب بناء المجتمع المتين، لا في أضيق أبوابه، وهو باب الجدل العقيم والتركيز على الفرعيات والبحث عن نقاط الاختلاف وليس عن نقاط الالتقاء بين المسلمين.

وطريقة مالك بن نبي في التحليل الصبور لمشاكل الحضارة يحتاج إليها جيل الشباب عندنا الذين يميلون في حماسهم إلى ترك التحليل العلمي وتفضيل رفع الشعارات عليه.

ولعل لجوء بن نبي إلى التحليل الصبور مما لا يجعله كاتبًا مفضلًا عند هؤلاء الشباب الذين يعجبهم الأسلوب الحماسي الذي يطرح أفكارًا قليلة وعواطف كثيرة، مالك بن نبي يطرح على العكس عواطف قليلة وأفكارًا كثيرة وهو بمنهجه هذا يعتقد أن مسألة نهضة الحضارة تخضع لسنن الله في الكون، وهي بالتالي تستوجب منا أن ندرس هذه السنن بإمعان لنستطيع التأثير ونكون فاعلين في الحضارة كما رأينا العمل الصبور المنهجي الدؤوب المتواضع الذي يقبل بإنجازات صغيرة هي لبنات بناء الحضارة المنشودة ولا يتبع مبدأ “كل شيء أو لا شيء” وليس مصابًا بمرض فرط التسييس الذي لا يرى شيئًا مهمًا خارج مسألة السلطة، هذا العمل هو الذي يبدو لي أنه جوهر دعوة بن نبي، وليس بن نبي قليل الطموح؛ فهو يرى أنه انطلاقًا من هذا العمل، انطلاقًا من قيام كل فرد في المجتمع بواجبه نحصل على حقوقنا الكبرى في العالم.

فإلى من يتوجه بن نبي في الخطاب؟ أيتوجه إلى المجتمع أم إلى السلطة؟ وإجابتي على هذا السؤال تقول إن بن نبي يتوجه إلى كليهما، ولكنه يركز اهتمامه خصوصًا على العمل الاجتماعي الذي تقوم به المؤسسات الوسيطة بين الدولة والناس، كالجمعيات الأهلية والمؤسسات الاقتصادية، وهيئات التخطيط الاجتماعي والعمل الثقافي، ولا يركز اهتمامه الوحيد على مركز القرار السياسي في المجتمع. وباختصار فإن مدرسة مالك بن نبي السياسية توجه انتباهنا إلى جوانب في غاية الأهمية من شأنها أن تثري العمل النهضوي وتستكمل نواقصه.

وحين نريد أن نحدد موقع بن نبي في الفكر الإسلامي المعاصر فإننا يمكن أن ننظر إليه بطريقتين مختلفتين واحدة داخلية وأخرى خارجية.

الطريقة الداخلية هي أن ننظر إلى هذا الفكر ببنائه الداخلي الذاتي وتفاعله مع الواقع.

والطريقة الخارجية هي أن ننظر إليه بمقارنته بالمدارس الأخرى. وهذه الطريقة تساعدنا بلا شك على رؤية ما لم يطرحه بن نبي أو ما لم يواجهه من قضايا ومشاكل، ولكنها تساعدنا أيضًا على رؤية جوانب قوة رؤيته إزاء جوانب ضعف المدارس الأخرى، الطريقة الداخلية هي التي اتبعتها إلى الآن في مقالي هذا، وهي تخبرنا، فيما آمل، عمّا قاله بن نبي ولكنها لا تخبرنا عما لم يقله وقالته المدارس الأخرى.

وما كنا لنتتطرق إلى هذه النقطة الأخيرة لولا أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في أيامنا هو الآتي : كيف كان بن نبي سينظر إلى من يسمون في عصرنا بالإسلامين؟ وما الذي كان سيقره من أطروحاتهم وطرقهم في التفكير -علمًا أنهم متنوعو الأفكار وليسوا متطابقين في كل شيء، بل يختلفون من اتجاه الآخر في قضايا هامة- وما الذي كان سيرفضه؟

في الحقيقة إن الذي يقرأ بن نبي وفي ذهنه منذ البداية طريقة الاتجاهات المعاصرة المسماة الاتجاهات الإسلامية، قد يميل وهو يبحر في صفحات بعض مؤلفات بن نبي إلى عده مجرد باحث اجتماعي أو باحث في فلسفة التاريخ كان من الممكن ألا يكون أصلًا باحثًا مسلمًا، فكثير من نظرياته الاجتماعية والتاريخية صالحة لأن تقال في أي ثقافة أخرى وأيًا يكن انتماؤها الديني.

هذه نقطة افتراق كبرى عن الاتجاه الإسلامي السياسي السائد؛ إذ هذا الاتجاه الأخير لا يهتم بالتحليل الاجتماعي والتاريخي بحد ذاته؛ بل هو أساسًا تشغل باله فكرة واحدة هي إقامة دولة على أساس الشريعة الإسلامية؛ وهو يرى أن كل مشاكل المسلمين ناتجة عن غياب هذه الدولة؛ وأنه ما من حل مجد قبل هذا القيام، وكل التحليلات السوسيولوجية والتاريخية إن وردت في كتابات هذا التيار وورودها نادر فهي ترد لتأكيد هذه الفكرة الرئيسية.

سأقول بداية: إن فكرة بناء الدولة على أساس الشريعة الإسلامية ونقد قيام الدولة المعاصرة في بلاد المسلمين على أساس القانون الوضعي المستورد لا تكاد ترد عند بن نبي وهو يعد مشكلة المسلمين الأساسية -كما رأينا- هي أنهم يعيشون في حالة انتقالية بين وضع حضارة قديمة تفسخت وحضارة جديدة لم تبن بعد، وكل كتاباته سماها بالفعل مشكلات الحضارة، وكل حديث عن بن نبي هو حكمًا حديث عن نظريته في شروط النهضة؛ وما يسبق هذه النظرية منطقيًا من نظريات أعم في دورة الحضارة وبناء المجتمع وتغير هذا البناء مع المراحل التي تمر فيها الحضارة في تطورها بين النهوض والارتقاء والانحدار.

ولكن بن نبي إن كان قليل التركيز على مطلب تطبيق الشريعة الإسلامية فإن هذا لا يعني بحال من الأحوال أنه غير مهتم بالشريعة؛ وبالعكس؛ فهو أولًا في نظريته الرئيسية يرى أنه لا يمكن أن تقوم حضارة بغير دور الدين المركب لعناصر الحضارة كما رأينا، وهو ثانيًا يعارض الأوضاع الاجتماعية التي لا تتناسب مع الشريعة الإسلامية وإن كنا نرى أنه ضمنًا لا يرى أن نصوص الفقه الإسلامي تكفي وحدها لبناء الحضارة المطلوبة؛ إذ هذه الحضارة لها سنن علمية مثل سنن الطبيعة على المسلم أن يبحثها ولا يتوقع أن يجدها جاهزة في نصوص الشريعة؛ وإن كان بالتأكيد يجد كثيرا من التوجيهات العامة في هذه النصوص (كما رأينا في استشهاداته بالآية عن التغيير ]إن الله لا يُغيرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنفُسِهِم( [الرعد: ۱۱/۱۳] وبالحديث “توشك أن تتداعى …”، وبأحداث السيرة)، ومن هنا رأيناه يطالب لحل مشكلة المرأة في المجتمع الإسلامي بمؤتمر يشارك فيه اختصاصيون في علم النفس والتربية والطب وعلم الاجتماع كما يشارك فيه اختصاصيون في الشريعة. ولعل هذا المثال يوضح بصورة جيدة أنه يرى الشريعة قانونًا عامًا للمسلمين ولكن حياتهم الاجتماعية تتقرر بسنن لا تتعارض مع الشريعة، ولكن نصوص الشريعة لا تكفي وحدها لاستخلاصها. وفي اعتقادي أن هذا الرأي بالذات رأي أي عالم شرعي متبحر؛ رغم أن العناصر المتسرعة في مجتمعنا قد تسارع إلى التنديد بهذا الفهم الذي هو في الحقيقة للمتأمل هو بديهيًا. وهو يعد الشريعة أساس حضارة الإسلام على شرط أن تكون فاعلة في الروح والنفس كما رأينا، لا أن تكون نصوصًا جامدة للاستظهار أو للبحث النظري المجرد.

والاختلاف الكبير لرؤية بن نبي عن رؤية الأيديولوجية العربية المعاصرة كلها، وليس عن أيديولوجية الحركة الإسلامية ما بعد البنا فحسب، هو أنه لا يرى حل مشكلة المسلمين في استلام سلطة مهما تكن جيدة، بل يراها أساسًا فعلًا اجتماعيًا وتجددًا نفسيًا روحيًا لمجتمع، شبكة علاقاته الاجتماعية كثيفة، يقوم كل فرد فيه بواجبه ويركز على واجباته أكثر مما يركز على حقوقه.

وهذه الفكرة أراها غاية في الفائدة في زماننا؛ إذ إنه في الوقت الحاضر ما من سلطة -مهما كانت جيدة- تستطيع أن تصمد أمام التحديات الخارجية وأمام المتطلبات الداخلية أيضًا، من اقتصادية وغيرها، إذا استمر الوضع الاجتماعي الحضاري المتحلل عندنا وهو متحلل بوجوهه كلها، فثمة تجزئة سياسية وتناحر بين الدول وتدهور اقتصادي وتحلل اجتماعي وثقافي. وأي عمل فوقي لن يجدي فتيلًا إن لم يترافق مع عمل تحتي يقوم به مجتمع بثت به الروح وقرر فيه كل فرد أن يقوم بواجبه، وكأن مصير الحضارة كلها معلق به، وفي رأي بن نبي أن هذه النهضة عندنا تقوم أساسًا على أساس الدين وهو بهذا المعنى بلا شك مفكر إسلامي بامتياز، وهو في هذا السياق انتقد المستشرقين نقدًا مريرًا لاعتقادهم أن الإسلام بالذات كان هو العامل المسبب لانحطاط المجتمعات الإسلامية؛ أما هو فكان يؤمن إيمانًا عميقًا أن الإسلام هو عامل نهضة، وأن الابتعاد عن الإسلام هو السبب الحقيقي في الانحطاط، ومن هنا فإن التحلل من واجبات الدين لا ينتج شرطًا من شروط النهضة بل على العكس، وهذا ما جعله ينقد رئيس بلد إسلامي اقترح على شعبه الإفطار في رمضان المواجهة ضرورات البناء الاجتماعي، قائلًا:

“كأن هذا البناء يمكن أن تقوم قائمته دون أسس أخلاقية، أو كأنما يمكن في أي بلد فصل الجهد الاجتماعي عن القوى الأخلاقية التي تسانده، دون هدم هذا الجهد ذاته وهذا مستحيل” (” ميلاد مجتمع.. ” ص ۹۸).

وعند بن نبي لا نجد علاقة عدائية مع الأنظمة السياسية، وهو لا يطرح شعار إسقاط الأنظمة، وقد يقال إنه لم يكد يشهد في بلاده نظامًا ليفكر في إسقاطه؛ إذ لم يعش طويلًا بعد عهد الاستقلال، وهذا على صحته ما كان ليصح حتى لو أن بن نبي بطريقته في التفكير عاش إلى الآن؛ لأنه؛ كما رأينا؛ ما كان من الممكن أن يرى حل المشكلة الحضارية في إجراء سياسي فوقي من نوع “تطبيق الشريعة الإسلامية” بمعنى استبدال المدونة من نوع “المجلة” العثمانية بالقانون الوضعي، والتجارب المعاصرة تعطيه في رأيي الحق في ذلك، ولنتأمل في أمثلة طُبقت فيها الشريعة بهذا المعنى كما في السودان والسعودية؛ بل كما في اليمن الإمامية.. بل كما في أكثر من تجربة كانت تحوز على الجماهيرية وقامت على أكتاف الناس وتمتع قوادها بنظرة للمجتمع والعصر والشريعة بل والفكر واسعة الأفق إلى حد جيد برأيي وهي تجربة “الثورة الإسلامية الإيرانية”.

ولا يجعل هذا من بن نبي طبعًا كما رأينا شخصًا لا يريد تطبيق الشريعة لكن له فهمه الأوسع أفقًا لهذا التطبيق المستند بصورة أفضل إلى سنن الله في المجتمع والحضارة. وقد حاولت في هذه الدراسة أن أشرح معنى هذه الفكرة.

وبن نبي لم يؤسس حزبًا سياسيًا، وفي اعتقادي أن طريقته في التفكير وفي تصور “البرنامج” الذي يجب أن تسير عليه السياسة الإسلامية ما كان ليجعله يسير في اتجاه كهذا، ولعل إعجابه بحركة الأستاذ البنا في بداية صعودها الكبير ناتج عن كون هذه الحركة غير حزبية، بل كان موقف البنا من الأحزاب المصرية في غاية السلبية كما هو معلوم فهو يقول: “الأحزاب المصرية هي سيئة هذا الوطن الكبرى، وهي أساس الفساد الاجتماعي”، وقد طالب بحلها جميعًا([1]).

ورؤيته لم تكن أيضًا لتجعله يركز على مسألة الصراع على امتلاك القرار السياسي رغم أنه ما كان يهمل دور هذا القرار. غير أنه لم يكن يحس كما يرى قارئه بهذا الفصام المرير عن الأنظمة الحاكمة الذي يحس به كثير من عرب اليوم، وعلى العكس من ذلك فقد كانت له صداقة مع الأنظمة ولا سيما النظام الناصري وكان معجبًا بالنظام السعودي الذي قام على أساس الحركة السلفية المسماة الوهابية، ونعى على بعض المفكرين (وهو بن باديس) أنهم لم يفهموا الفرق بين ابن سعود والإمام يحيى فأنبوا الطرفين على الاقتتال بينهما كأنما الشيخ لم يتبين عظم النزاع الذي تقف فيه القوى الروحية والمادية في النهضة الإسلامية متجسدة في الفكرة الوهابية، في وجه قوى الانحطاط والتدهور ممثلة في الإمام يحيى (“وجهة العالم الإسلامي”، ص۹۳) وإن كان على ما يبدو خاب أمله في تطور المجتمع السعودي كما خاب أمله في تطور تجارب نهضوية أخرى! وليراجع القارئ خيبات أمله التي تظهر في جمل قصيرة في كتب العقود اللاحقة، انظر مثلًا تعليقه عن خيبة أمل الحاج -وأحسبه يتكلم عن نفسه- الذي يصادف حين ينزل في جدة لافتة “هيئة الأمر بالمعروف” فيطرب لها ثم حين يتقدم خطوات يخيب أمله (“مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، ص 90).

 وأعتقد أن بن نبي لو عمل في الميدان العام فسوف يعمل في صفوف حركة اجتماعية ليس لها طابع حزبي بل هي حركة عامة تستهدف البناء التحتي ولا تستهدف اجتذاب الأصوات الانتخابية أو الصعود إلى السلطة، وقد رأينا في فقرة سابقة أنه ما كان يفضل شكلًا محددًا من الأنظمة السياسية فلا يفاضل بين الجمهورية والملكية والاستبداد المطلق على أساس هذه الصفات بالذات، بل على أساس المضمون الإيجابي الذي يحدد إن كانت سياستها علم اجتماع مطبقًا أم ضربًا من الأوهام والخزعبلات!

ونرى هنا فارقًا لأسلوب بن نبي في التفكير السياسي وفي المفاضلة بين الأنظمة وبعض التيارات المعاصرة التي تصر على تبني شكل معين على أنه “الشكل الشرعي ” -مثل شكل “الخلافة”- والفرق في الحقيقة شاسع؛ فبن نبي لم يكن يعتقد أن ثمة إجابة جاهزة على الأسئلة التطبيقية مثل سؤال نظام الحكم، وما كان يرى في شكل نظام الحكم إلا شكلًا فحسب، يحدد الحكم عليه من خلال مضمونه الفعلي الواقعي وفاعليته في المسألة المركزية عنده: مسألة النهضة.

ويلفت انتباهنا في فكر بن نبي غياب الحديث عن “الجهاد” تقريبًا، فهل كان بن نبي يجهل هذا المفهوم؟

في اعتقادي أن بن نبي كان كما رأى القارئ يجعل من النهضة أساس الحل لمشكلة الحضارة الإسلامية وهو في بداية كتاب “شروط النهضة” يتحدث عن الجهاد البطولي للأمير عبد القادر والقبائل التي انضمت تحت رايته ويلاحظ ملاحظة حزينة على هذا الجهاد: “إنهم كانوا يقاتلون من أجل الخلود لا من أجل البقاء!”([2]).

“فعندما برق في أفقنا فرس الأمير عبد القادر في وثبته الرائعة كان الليل قد انتصف منذ وقت طويل ثم اختفى سريعًا شبح البطل الأسطوري كأنه حلم طواه النوم”. (“شروط النهضة”، ص20).

على أن هذا الجهاد وإن لم يحقق غاية غير الخلود؛ فقد كتب الخلود لشعب مثبتًا قوة الإسلام الروحية التي كانت درعه الذي منعه من الانحلال كما انحلت شعوب أخرى كالشعوب الأمريكية الأصلية.

وأستنتج من هذا أن بن نبي كان لا يرى الجهاد طريقًا يحل بذاته المشكلة الحضارية؛ فأولًا يجب حل مشكلة القابلية للاستعمار أي مشكلة النهضة. على أنني لا يفوتني بالمناسبة أن أذكر أن بن نبي نسب للإسلام بقاء هذه الشعوب؛ فهي نفسها باقية على الإسلام وإن بشكله غير الفاعل ومشكلتها حضارية لا عقدية كما رأينا عند نقده للحركة الإصلاحية، وقد وجدت من الواجب الإشارة إلى هذه النقطة: إن مالك لم يخطر على باله -ولا خطر على بال معاصريه- ما خطر على بال الغلاة الذين جاؤوا بعده من عد المجتمعات الإسلامية الحالية مجتمعات جاهلية بل كافرة.

وقد يبدو هذا الرأي (الذي لا يرى في الجهاد الآن حلًا) انهزاميًا -وأعتقد أن هذا الرأي الاستنتاجي لم يصغه هو بهذه الصورة الصريحة- ولكنني أراه في غاية الواقعية؛ وبالذات إذا نظرنا إلى واقعنا الراهن؛ حيث تحولت فكرة الجهاد إلى فخ يكاد يقود الشعوب الإسلامية إلى حتفها، والمكان الوحيد الذي أعرفه لا يمكن فيه إلا المقاومة حتى لو لم يتوفر أي شرط مادي أو اجتماعي أو فكري هو فلسطين التي يواجه شعبها خطرًا على وجوده الجسدي بالذات والمقاومة مفروضة عليه خيارًا إجباريًا، ولعلي ألاحظ هنا أن المجتمع الفلسطيني قد شهد نهضة داخلية عظيمة ما كان بن نبي إلا ليفرح لها في ظل الانتفاضة. وهذه النهضة الاجتماعية التي حققت أرقى أشكال التنظيم والعلاقات الاجتماعية قلما تتم الإشارة إليها في الدراسات عن الانتفاضة، ولم يؤثر فيها الإفساد المتعمد الذي جاء من الخارج المحتل ومن الداخل السلطوي.

وأعتقد أنه من حسن حظ بن نبي رحمه الله أنه مات ولم يشهد ما جرى في بلاده الحبيبة من مسخ شيطاني لم يشهد له تاريخ الإسلام مثيلًا للفكرة الدينية التي تحولت بشكلها الزائف شيطانًا دمويًا مشبوه الأصل والدوافع يغتال عشرات الآلاف من الأبرياء، وينشر الرعب تحت خيمة الشيطان الكبرى التي اسمها في عصرنا: “تكفير المجتمع”.

وفي اعتقادي أن المسلمين محتاجون قبل الجهاد الأصغر إلى جهاد أكبر، يكافحون فيه عوامل الانحطاط في ذواتهم وعيوبهم الاجتماعية الهدامة من ذاتية وانعدام روح المصلحة العامة وعشائرية وجهل وكسل وفقدان للمنطق العملي مما رأيناه شروطًا للنهضة تقوم بوجودها ولا تقوم بغيابها.

ولنأت الآن إلى السؤال عن السر في قلة تأثير فكر بن نبي في وقت إنتاجه :

في اعتقادي أن هناك من الأسباب ما هو عَرَضي وما هو جوهري :

الأسباب العرضية تتمثل في صعوبة أسلوبه ووعورة لغته وسوء تركيبها ولجوئه إلى التحليلات النظرية الدقيقة التي يصوغها أحيانًا بمعادلات رياضية! ولا شك أن كاتبًا كهذا لن يكون مشوقًا للقراءة خصوصًا إذا قورن بكتاب يعتمدون على صيغ بسيطة خطابية عاطفية ذات ألفاظ مجلجلة.

وأما الأسباب الجوهرية فأهم ما فيها في نظري، السبب الذي أصوغه كما يلي: إن بن نبي جاء في غير وقته!

لقد كان زمنه زمن السياسة وزمن فكرة أولوية النضال من أجل السلطة على ما عداه وفكرة وجود عامل واحد يحل المشاكل الاشتراكية أو الوحدة العربية أو تطبيق الشريعة وبناء الدولة الإسلامية. لقد كانت هذه سمة العصر التي كانت كما قلت توحد تيارات الأيديولوجية العربية باطنًا وإن اختلفت بل تناقضت في الظاهر.

وكما يحصل مع الأفكار الأصيلة فإنها يمكن أن تتوارى في الخلفية في حالة كمون في الظروف غير الملائمة لها؛ ثم تبرز إلى السطح مع بروز الحاجة الاجتماعية لها.

لقد هُزم مشروع التغيير من فوق، وكما ذكرت لنتأمل في التجربة السودانية تحت حكم الإنقاذيين وما جرى لهم، وما جرى لتجربة هي أهم من هذه بعد، إذ هي تجربة سلطة صعدت على أكتاف مظاهرات التأييد المليونية: تجربة الثورة الإيرانية.

والذي أراه أن بن نبي أصبح مطلوبًا الآن.. لماذا؟

السبب الجوهري أن الأساس الذي قامت عليه الأيديولوجية العربية في نصف القرن الماضي قد تلقى ضربات قاصمة :

ولنتأمل فوق هذا في هزائمنا المعاصرة كلها: لقد هُزمت سلطتا دمشق والقاهرة في عام ١٩٦٧ دون أن يكون أقطاب هاتين السلطتين وخصوصًا السورية من الفاسدين وعلى العكس يشهد معاصرو رجال السلطة السورية المهمين أنهم آنذاك من الناحية الشخصية كانوا في غاية النزاهة ونظافة اليد والإخلاص لمبادئهم.

إذن هذا الواقع يفرض العودة إلى السؤال الحضاري … سؤال الفاعلية … سؤال النهضة وهذا هو سؤال بن نبي الذي لم يستمع إليه معاصروه جيدًا.

 لذلك فالزمان الآن زمانه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المصدر: جزء مستل من كتاب “مالك بن نبي والوضع الراهن”، ص70-83. (مع تعديل عنوان الجزء المستل من جانبنا).

** الدكتور محمد شاويش: ولد في سوريا عام 1961 من أسرة فلسطينية. حاصل على إجازة في الشريعة وأصول الدين. حائز على ماجستير في الدراسات العربية ودكتوراه في علم الترجمة عن مشكلة ترجمة الأدب العربي إلى الألمانية من جامعة FU Berlin -قسم اللغات السامية. له عديد من الكتب والمقالات المنشورة في صحف ومجلات عربية.


[1] انظر: مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي”- “نظام الحكم”- مكتبة الإيمان بالمنصورة -١٤١٢هـ -١٩٩٢م – ص 326- 327.

[2] يتطابق تقويم بن نبي هذا وبصورة غير متوقعة مع تقويم مفكر عربي من اتجاه مختلف تمامًا -وهو ياسين الحافظ- للمقاومة القومية التقليدية للاستعمار الفرنسي في فيتنام، وهي مقاومة انتهت بالهزيمة حتى جاءت الحركة المحدثة التي قادها هوشي مينه. ولا أعرف إلى أي حد حدث الشيوعيون فيتنام حقًا فالحافظ في كتابه “التجربة التاريخية الفيتنامية “- كان واقعًا تحت تأثير الحماس للانتصارات الفيتنامية الكبرى في السبعينات. ولعله الآن بعد سقوط المنظومة الاشتراكية ما كان سيصدق بالحماس والوثوق نفسه أن فيتنام حققت هذا التحديث؛ إذ فيتنام فيما أظن وعلى رغم كفاحها المجيد من أجل طرد الاستعمار الخارجي والوحدة القومية لم تزل في صفوف دول العالم الثالث والعلاقة في طريقة التفكير ويدون أي تأثير متبادل بين الحافظ وبن نبي تستحق التأمل والدراسة، وهي تدلنا على أن الأيديولوجية عندنا على اختلافها الظاهري تتبع طرقًا متشابهة في التفكير تمليها عليها وحدة المشاكل الواقعية المطروقة والخيارات المحدودة العدد للخروج من هذه المشاكل (من نوع تغيير سلطة أم تغيير مجتمع؟ جواب واحد للمشاكل المطروحة أم أجوبة متعددة؟ حل تحتي أم حل فوقي؟.. وتأمل!).

في القاهرة عقد قضاة مصر أول مؤتمر في تاريخهم، نظمه نادي القضاة، تحت عنوان “مؤتمر العدالة”.

وقد تشعب عمل المؤتَمرِين إلى شعب خمس، انتظمت كل واحدة منها في لجنة من لجان المؤتمر، لتناقش شأنًا مهمًا من شؤون العدالة، أو تتداول في بعض شجونها.

وكان أكبر مثير للانتباه ذلك الذي شغلت به للجنة سُميت بلجنة التشريع، وعقد لها اختصاص مناقشة سبل معالجة التضخم التشريعي، وقد أشار رئيس الجمهورية في خطابه الذي افتتح به المؤتمر إلى أن مصر قد صدر فيها ستة آلاف قانونًا منذ يوليه سنة 1952 حتى الآن، وهو رقم -في نظر المختصين- يقل كثيرًا عن الرقم الحقيقي لعدد التشريعات. ولكن هذه اللجنة شغلت بأمر آخر، غير تضخم التشريعات وزيادة عددها بلا توقف، شغلت بأمر نوع التشريعات المطبقة في مصر، ومصدرها وأساسها.

فكان المحور الرئيسي لعمل هذه اللجنة هو: تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر. ولم يبد أحد من المتحدثين من رجال القانون أو القضاة أو المحامين إلا تأييدًا مطلقًا لتطبيق الشريعة، وإعمال أحكامها واتخاذها –كما كانت- أساسًا للنظام القضائي والقانوني المصري.

وتوالت الحجج في هذا الخصوص: فنص المادة الثانية من الدستور المصري يوجب ذلك، وتطبيق أحكام الشريعة فرع لصحة الإيمان بالله تعالى وكتابه ورسوله، واستقلالنا السياسي لم يكتمل حتى اليوم.

إذ لا يكتمل لأمة استقلالها السياسي وهي مستعمرة تشريعية بكل ما في الكلمة من معان، بل إن مصر على وجه الخصوص مستعمرة تشريعية لمستعمرين متعددين لا لمستعمر واحد، وفي هذا من العنت والعسف بالناس ما فيه، وفيه من الإرهاق والإزعاج للقضاة والمحامين، الملزمين بتتبع مأخذ كل تشريع والبحث عن تفسيره المستقر في (بلد المصدر) حتى يتسق معه تفسيره في مصر، ما لا يعرفه إلا الساهرون الليالي بحثًا عن أصل الكلمة الفرنسية أو الانجليزية أو الايطالية التي ترجمت في قانوننا إلى العربية، وعن كيفية إعمالها قضائيًا في لغتها الأصلية، ومدى مناسبة ذلك لسياق قانوننا، أو اختلافه معه.

والقانون الأوروبي الذي يطبق في مصر فُرِضَ عليها فرضًا بعد الغزوة البريطانية الغادرة في سبتمبر 1882، إذ قدم ناظر الحقانية حسين فخري باشا إلى مجلس نظار الاحتلال الأول في 27 /12/1882 مذكرة يطلب فيها -وهو موقن بالإجابة- عدم عمل القوانين المطابقة للشريعة الغراء، نظرًا للحالة الجارية بين الأهالي. وهذه الحالة لم تكن إلا سعي القوات العسكرية البريطانية إلى تثبيت أركان وجودها الاستعماري في مختلف أنحاء القطر المصري، وفي كل جوانب الحياة فيه.

وما تخوفت منه بعض المحاكم المصرية من فراغ قانوني لا أساس له من الصحة، فنصوص الشريعة الإسلامية القطعية الورود والدلالة (وهي تمثل أسس النظام العام الإسلامي) تعمل من تلقاء نفسها في النظام القانوني ولا تحتاج إلى تدخل تشريعي جديد، وما عدا ذلك تكفَّلت بعلاجه طبيعة النظام القانوني في بعض جوانبه، ونصوص تشريعية كنص المادة الثانية من القانون المدني، ونص المادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية (وهو نص لم يلغ) في جوانب أخرى.

والقضاة غير غرباء عن الشريعة الإسلامية بمصادرها ومراجعها ومصطلحاتها، فكثير منهم -بل جلهم- جلسوا في محاكم الأحوال الشخصية وهي لا تقضي إلا بالشريعة الإسلامية، فألفوا تلك المصطلحات ومرنوا على التعامل مع المراجع والمصادر الإسلامية، وهم جميعًا قد درسوا في كليات الحقوق قدرًا لا بأس به من المناهج الشرعية التي تجعلهم، بجهد لا يزيد كثيرًا عن جهدهم في التوصل إلى حكم القانون الوضعي، قادرين على التوصل إلى حكم الشريعة في الأقضية التي يتناولها المتقاضون أمامهم، والزعم بأن الشريعة تخيف إخواننا الأقباط زعم باطل مبني على النظرية الاستعمارية: فرق تسد، فقد عشنا معهم وعاشوا معنا ثلاثة عشر قرنا أو تزيد نستظل جميعًا بظل الشريعة السمحة، وقد أعلن كثيرون من أهل الرأي منهم أن في الشريعة الإسلامية من الأحكام ما هو أكثر إنصافًا وأعظم عدلًا لهم من القوانين التي يضعها الناس على هواهم، أو يقلدون فيها غيرهم. وهم قطعًا سيكونون -کما هم الآن- في ظل تطبيق الشريعة الإسلامية، في وضع قانوني أفضل ألف مرة من وضع المسلمين القانوني في المجتمعات غير الإسلامية، التي تحكمها -بالطبع- القوانين الوضعية.

والشريعة، أخيرًا، أحفظ نظام وأحفله بحماية حقوق الناس والحفاظ على مصالحهم، وإقامة الحكام مسؤولين عن تحقيقها والسعي الدؤوب إلى استقرارها في المجتمع وبين كل شرائحه وطوائفه، حتى قرر الإمام القرطبي أن من أصر على الجور أو ترك الشورى من الحكام فعزله واجب بلا خلاف!!

فأي ضمان للناس أكثر من هذا الضمان، وأي احترام لإرادتهم وحقوقهم أعظم من هذا الاحترام!

أما الحكام، فهم في ظل الشريعة، إن حكموا بالعدل، وأقاموا في الناس ما يقضي به الدين، وحرصوا، جهدهم كله، على تحقيق مصالح المحكومين، وأخذوا بالشورى، ونبذوا الاستبداد، ووالوا أولياء الأمة وعادوا اعداءها، أولى الناس بالطاعة لهم، بل إن مخالفتهم فيما يأمرون به وينهون عنه من المباحات، تعد عندئذ معصية يجتنبها المؤمن طاعة لله لا خوفًا من القانون، ولا فزعًا من الشرطة، ولا رهبة من قوانين الطواري الدائمة أو المؤقتة.

ذلك، كان مجمل حجج المؤيدين لتطبيق الشريعة، وهناك تفاصيل كثيرة، بعضها ذو أهمية تركتها في هذا المقام لأعود إليها في موضع أكثر مناسبة لها إن شاء الله.

ولم يغب عن عمل تلك اللجنة -لجنة التشريع- الرأي الآخر، المعارض علنًا وبقوة لتطبيق الشريعة الإسلامية، أبداه بعض غير المشتغلين بالقانون من ضيوفها الذين حرصوا على المساهمة الفعالة في عملها.

وكان مجمل حججهم، أن النظم الإسلامية غير معروفة المعالم للكافة، فكيف نطالب بتطبيق شيء غامض؟

وأن الشريعة لم تكن مطبقة في مصر في العصر المملوكي والعصر العثماني، وأن الحاكم -الوالي- كان يجعل تطبيق أحكام القصاص والحدود إلى نفسه لا إلى القاضي، وأن هناك من يتخوفون من تطبيق الشريعة -بل يرتجفون- لأن المثل الموجود أمامهم هو مثل ذلك النفر من الشباب المتعجل، الذين يفصلون فيما يظنونه قضية، دون أن يسمعوا مرافعة ولا دفاعًا، وينفذون الحكم بأيديهم فلا يتيحون فرصة لاستئناف ولا نقض!!

ونالت تلك الحجج عناية كل المتحدثين، فبينوا أن النظم الإسلامية ذات أصول راسخة في القرآن والسنة، وأن ما لا يخالف نصًا قطعيًا فسبيله سبيل الاجتهاد المباح في الشرع، بل الواجب على القادرين عليه. وأن عدم العلم بهذه الأصول، وما بنى عليها من فروع ليس دليلًا على عدم وجودها حتى يطالب دعاة تطبيق الشريعة في كل موقف بتقديم الدليل عليها واثباتها!!

وقيل إن عيوب التطبيق تدل على انحراف في السلوك، لا في القواعد الحاكمة لهذا السلوك، وإن الانحراف أيًا كان سببه أو الدافع إليه لا يسوغ انحرافًا جديدًا، ولا يجعل الاستمرار في الانحراف أمرًا مشروعًا.

وأن الوالي حين كان يجعل التطبيق إليه في القصاص والحدود فإنما ذلك من شدة الاحتياط في أمر العقوبات الماسة بالحياة أو بالشرف والاعتبار، والفقهاء يحفلون غاية الاحتفال بما يمس الدماء والأعراض من العقوبات، ويوجبون الاحتياط في توقيعها، فجعل الوالي ذلك تحت اشرافه المباشر تنفيذًا، لا قضاء، إذ بقى القضاء دائمًا مستقلًا عن الوالي غير خاضع له. تلك هي القراءة الصحيحة للتاريخ، وما عداها -إن وجد- فهو شذوذ يعيب أصحابه ولا يعيب الإسلام ذاته.

وقيل أخيرًا إن ردود الفعل لا عبرة بها، وتصرفات الآحاد لا تلقي بالذنب أو اللوم على الكثرة المخالفة لها، ولا على الفكر الذي ينتسب إليه أصحابها. إنما يلام فهمهم، ويدان سلوكهم الخاطئ، ولا يجوز لعاقل أن يتصور تحول الدولة بنظمها ومؤسساتها إلى مجموعة من المتهورين المتعجلين. وهؤلاء لم يوجدوا إلا نتيجة القهر السياسي، والظلم الاجتماعي، والفساد في التركيبة الاقتصادية، وطغيان أقلية ظالمة على الأغلبية الصامتة المسحوقة، وحين تزول هذه الأسباب، ويسود العدل، وتبسط المساواة رداءها على الناس، فلن نجد لهؤلاء أثرًا، ولن نسمع لهم صوتًا.

وكان من طريف الحجج، وقويها في الوقت نفسه تلك الحجة القائلة: إن كل الأمم تحكم بقوانين تختارها ووفق نظم تقرها، وتتفق مع معتقداتها أو لا تتناقض معها. فما بال أمتنا المصرية والإسلامية بوجه عام يحال بينها وبين هذا الحق الطبيعي للأمم كافة؟ وهي قد أبدت رغبتها في استفتاءين شعبيين، وألحت عليها من خلال ممثليها في مجلس الشعب، واستمسكت بها في كل المناسبات والظروف، أم ترانا سنصنع صنع الذين لا يذكرون الله، فإذا مسهم الضر، ضل من يدعون إلا اياه، فإذا نجاهم إذا هم معرضون؟

لذلك انتهت أعمال المؤتمر وفي الصدارة من توصياته التوصيات الخاصة بإقامة النظام القانوني والقضائي المصري على أساس من الشريعة الإسلامية.

وبقي أن يستجيب لذلك صناع القرار التشريعي والسياسي، رفعًا للحرج عن القضاة واستجابة لحق الأمة في أن تحكم بما تريد، وقبل ذلك طاعة للرب، واستجلابًا لرحمته وهو القائل، ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)﴾.


مقال مستل من كتاب: الأزمة السياسية والدستورية في مصر 1987-1990، للدكتور: محمد سليم العوا.

بعدما اتفق شيوخ القبائل في “سوات” على تطبيق الشريعة الإسلامية في مقاطعتهم، فإن أول ما فعلوه أنهم شرعوا في إقامة المحاكم الردع المذنبين وتأديب المتفلتين، و”سوات” هذه مقاطعة في شمال غرب باكستان في المنطقة الحدودية الموازية لأفغانستان، وسكانها من “البشتون” الذين خرجت طالبان الأفغانية من صفوفهم، وهذه الخطوة ليست شاذة في مجتمعات مسلمى أطراف العالم الإسلامي، الذين يعتبرون تطبيق الحدود هو الخطوة الأولى اللازمة لتطبيق الشريعة، وهو ما حدث في نيجيريا والصومال “حركة المحاكم الإسلامية”.

ومن المفارقات أن هذا الذي اعتبروه مدخلًا لتطبيق الشريعة، هو من الناحية الزمنية من آخر مانزل من تعاليم الإسلام، من تلك المفارقات أيضًا أن تلك الدعوات انطلقت في مجتمعات بائسة عانت من الدمار والفقر والتخلف، لكن الذين أطلقوها أداروا ظهورهم لكل عناصر ذلك الواقع المؤلم، ولم ينشغلوا إلا بالتعامل مع المنحرفين في المجتمع، وهو ما يدعونا إلى تأمل المفارقة الثالثة التي تتمثل في تجاهل أشواق الأسوياء الذين يشكلون الأغلبية الساحقة، وتوجيه الاهتمام صوب المنحرفين ومن لف لفهم، من ثم فإن مسلكهم جاء معبرًا عن فهم منقوص للدين ولسنن الإصلاح، وفهم معدوم للدنيا ولفقه عمارة الأرض.

 كون ذلك حاصلًا في مجتمعات الأطراف يفسر لنا لماذا تعاني من الفقر الشديد في المعارف الإسلامية، الأمر الذي تحتل في ظله الأولويات والموازين بحيث تغيب المقاصد عن الإدراك العام، وتحتل بعض الوسائل صدارة الاهتمام، وهو ما يحول الرسالة السماوية في نهاية المطاف إلى قانون للعقوبات، وليس سبيلًا إلى هداية الناس واستقامتهم، ودعوة إلى عمارة الأرض، وإشاعة الخير والنماء في المجتمع.

هؤلاء الذين يريدون اختزال الإسلام في الحدود يهينونه من حيث إنهم يبتذلونه ويقزمونه. كما أنهم يلطخون وجه الحضارة الإسلامية التي أنجزت ما أنجزته، لا لأنها لاحظت العصاة والمنحرفين، ولكن لأنها فجرت طاقات النهوض والإبداع لدى النابهين من أبناء الأمة، فتنافسوا في العطاء ووظفوا إيمانهم لصالح التقدم والبناء.

 في زياراتي لباكستان وأفغانستان صادقت نماذج من هؤلاء، وحين كنت أحدثهم عن أن من يريد أن يطبق الشريعة حقًا يجب أن يدخل إليها من باب تعزيز الحرية والديمقراطية، ولا ينبغي أن يفتح باب الحديث عن الحدود قبل توفير الكفايات للناس حتى يتسنى لهم الحلال الذي يغنيهم عن اللجوء إلى الحرام. وقد علت الدهشة وجوههم، حين قلت إن سيدنا عمر بن الخطاب أوقف حد السرقة في عام المجاعة، لأن الناس يجب أن يشيعوا ويعيشوا مستورين حتى لا يمد أحدهم يده ليسرق شيئًا من مال غيره، وكانت خلاصة ما خرجت به أن هؤلاء مسلمون مخلصون لكنهم لا يعرفون من أمر دينهم إلا النزر اليسير وهو ما حاولت لفت الانتباه إليه في كتابي عن جماعة طالبان، الذين وصفتهم بأنهم “جند الله في المعركة الغلط”.

هذه العقلية تجلت في سلوك “الخوارج” الذين كانوا أشد فرق المسلمين تدينًا وأكثرهم اندفاعًا وتهورًا. فهم الذين رفعوا شعار “لا حكم إلا لله” وكفروا عليا بن أبي طالب لأنه قبل التحكيم بينه وبين معاوية، حتى لم يترددوا في قتل من لم يؤيدهم في تكفيره، وهؤلاء لم يختلفوا كثيرا عن “اليعقوبيين” في الثورة الفرنسية، الذين باسم الحرية والإخاء والمساواة ارتكبوا الفظائع، فقتلوا المئات، وأسالوا الدماء غزيرة في البلاد.  لقد ندد الشيخ محمد الغزالي في كتاباته كثيرا بالمسلم “الغبي” الذي اعتبره كارثة بكل المعايير ولا أعرف ما الذي كان يمكن أن يقوله إذا ما قرأ خبر الذي جرى في “سوات” لكننى واثق من أنه لن يصنفه بعيدًا عن ذلك “الغبي” الذي استفزه وأثار غضبه ولم يتوقف عن مطاردته في كتبه خلال السنوات الأخيرة في عمره.

____________________________

المصدر: فهمي هويدي، بوابة الإسلام العقابي، جريد الشرق القطرية، 23 مارس 2009، https://2u.pw/w248NHi.

في هذه المقالة يناقش جوزيف لمبارد الأسس المعرفية للبحث الغربي حول الإسلام والقرآن، فيحاول كشف سيطرة البعد الكولونيالي على هذا البحث في أعمق مساحاته، ويعتبر لمبارد أن سيطرة هذا البعد والممكن تسميته «الاستعمار المعرفي» بما يستتبعه من تقسيم خرائطي للمعارف هو الذي يقضي بالتشكيك الدائم في صلاحية المصادر الإسلامية والمناهج المعرفية السائدة في هذا التراث، حيث يتم تقسيم المعارف إلى معارف مقبولة ومعارف غير مقبولة، ويتم وضع المعارف والمناهج الإسلامية خلف خط المعارف المقبولة كنتاج لا يصلح إلا للمعرفة الأدبية ولا يرقى لتكوين معرفة علميّة موثوقة.

وتأتي أهمية ترجمة هذه المقالة للمبارد ضمن ملف الاتجاه التنقيحي من كونها تكشف الأساس المعرفي الأعمق وراء هذه التشكيكات الجذرية في المصادر الإسلامية التي ينادي بها هذا الاتجاه، فضلًا عن قدرتها على كشف اتساع هذا التشكيك؛ حيث يشمل المناهج والأدوات وليس فقط المعارف، وقدرتها كذلك على كشف تجذّر هذا التشكيك أيضًا في أعمق مساحات البناء المعرفي الغربي.

بالإضافة لهذا تأتي أهمية هذه المقالة من كونها -عبر تفكيكها الأساس الثاوي في البناء المعرفي الغربي والقاضي بالتحيّز ضد المعارف والمناهج الإسلامية- تعدّ محاولة لإعادة الاعتبار لهذه المناهج، وهذا من شأنه أن يطور البحث الغربي للقرآن عبر الاستفادة منها.

رابط مباشر لتحميل المقالة

ورقة بحثية قُدمت إلى ندوة “الصكوك الإسلامية: عرض وتقويم” التي عُقدت في جامعة الملك عبد العزيز في جدة خلال الفترة 10-12/6/1431هـ الموافق 24-26/5/2010م بالتعاون مع مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية، وجاء في مقدمة هذه الورقة ما يلي:

تتناول هذه الورقة أهم القضايا الفقهية والاقتصادية التي أثيرت حول الصكوك. فمن الناحية الشرعية، تتفق الورقة مع التكييفات والآراء الفقهية الاجتهادية السائدة في قضية الصكوك، وتختلف عنها بعض الأمور، أهمها تفضيل معيار الغلبة في تداول الصكوك التي تحتوي موجوداتها على ديون أو نقود تجنبًا لوقوع ربا النسيئة، وعدم الموافقة على الإطلاق على تضمين موجودات الصكوك أي ديون ربوية.

وبينما تقبل الورقة القول بجواز تداول صكوك السلم، إلا أنها تحذر من استخدام ذلك التسويغ لتركيب عقود تسمح بوقوع المتاجرات (المضاربات) التي تودي باستقرار الأسواق. وكذلك تقبل الورقة جواز تضمين مدير الصكوك على أساس دارسة الجدوى التي يقدمها، ولكن ببعض الشروط، أهمها: أن ينص العقد بين الطرفين على تحديد مسببات الخسارة التي لا يكون بوقوعها مدير الاستثمار مسؤولاً عن رأس المال؛ وأن يُحتكم إلى محكم خارجي مستقل يتمتع بالخبرة الشرعية والتجارية لتقرير مسؤولية مدير الاستثمار من عدمها؛ وأن يقتصر التضمين إن وقع بشروطه على رأس المال، ولا يتجاوز بذلك إلى الربح. وأن يضمن مدير الصكوك في حال التضمين بشروطه القيمة السوقية لموجودات الصكوك عند وقوع مسبباته، لا أن يضمن رأس المال كاملاً عبر ضمانه للقيمة الاسمية للصكوك. وتحذر الورقة من أن ينطوي التعهد بشراء موجودات الصكوك ببقية أقساط الإجارة المتبقية في صكوك الإجارة المنتهية بالتمليك، على تحقق الضمان الممنوع. كما تحذر بأن تعهد المستأجر في صكوك الإجارة التشغيلية بشراء الأصول عند الإطفاء بقيمتها الاسمية يمكن أن ينطوي على بيع الاستغلال وبيع العينة المنهي عنهما.

وتجيز الورقة التزام مدير الصكوك بتقديم قرض عند نقصان الربح الفعلي عن المتوقع في مقابل تنازل حملة الصكوك عن الربح الزائد عن المتوقع إذا كانت الصكوك صكوك استثمار يقوم على الربح والخسارة، ولا يكتنفها شيء من الضمانات، وتمثل ملكية حقيقية لا شكلية لموجودات الصكوك. وتؤكد الورقة على أن بيع الصكوك بأقل من قيمتها الاسمية لبعض حملة الصكوك، يتنافي مع مبدأ الاشتراك في الربح والخسارة بين حملة الصكوك، ولعدم قيام ما يسوّغ تفاوت حملة الصكوك في نسب الربح في بعض الحالات.

وتقول الورقة بجواز توزيع مدير الصكوك لجوائز على بعض حملة الصكوك إذا كانت قيمة أو مبالغ هذه الجوائز غير مرتفعة وكان ثمنها يدفعه مدير الصكوك من ماله الخاص، وبشرط ألا تزيد حصة الربح المشروطة لمدير الصكوك عن المعتاد، بما يجعلها تعويضًا له عن قيمة هذه الجوائز. وتقول كذلك بجواز اقتطاع نسبة معينة من أرباح الصكوك لتشكيل احتياطي يغطي خسائر مستقبلية محتملة، مع تمكين حامل الصكوك من استرداد ما اقتطع من ربحه عند انسحابه من العملية الاستثمارية.

وتجيز الورقة أن يعمد بائع الأصول إلى استئجار الأصول بعد بيعها إجارة منتهية بالتمليك، مع تحقق شرطين الأول: أن عقد البيع الأول الذي بيعت فيه الموجودات المؤجرة عقد بيع حقيقي بين بائع الموجودات وحملة الصكوك أو من يمثلهم. الثاني: أن حملة الصكوك يتحملون حقيقة تبعات الموجودات المؤجرة طيلة فترة عقد الإجارة، من حيث ضمان خطر الأصل المؤجر، وتحمل نفقات الصيانة الأساسية التي يتحملها المؤجرون عادة ونفقات التأمين والضرائب والغرامات وكل ما يتحمله الملاك عادة.

ومن الناحية الاقتصادية غالبًا ما تبنى العلاقة بين حملة الصكوك والهيئة الخاصة على أساس عقد المضاربة، بحيث لا يتدخل حملة الصكوك في تفاصيل أعمال الهيئة، وإنما عليهم أن ينتظروا النتائج، ونظرًا لأن الهيئة الخاصة ينشئها ويملكها في الغالب المالك الأصلي للموجودات المصككة، فمن المتوقع أن تحدد مهام الهيئة وصلاحياتها عند إنشائها بما يتفق مع مصالحه التي قد تتعارض مع مصالح حملة الصكوك، ولحماية حملة الصكوك من تضارب المصالح، يكون الأفضل أن تبنى العلاقة بين حملة الصكوك والهيئة الخاصة على أساس المشاركة.

وللتأكد من توافق أعمالها مع الشريعة لا بد من وجود هيئة شرعية تشرف عليها. فإذا تعددت العمليات التي تقوم بها الهيئة الخاصة وتنوعت فلا مناص من أن يؤسس جهاز للتدقيق الشرعي يعمل تحت إشراف الهيئة الشرعية.

وتتلخص أهداف السلطات الرقابية فيما يتعلق بالصكوك في: أولاً، الحرص على خاصية التوافق مع الشريعة، لأنه إذا لم تتوافر الشروط الشرعية في الصكوك، فإنها تهدد بسوء السمعة وفقدان الثقة التي قد تتطرق إلى النظام النقدي والمالي بأسره. وثانيًا الحرص على أن حملة الصكوك يمتلكون حصصًا على المشاع في موجودات حقيقة، لأن هذا شرط للتوافق مع الشريعة ولضمان حقوق حملة الصكوك.

وثالثًا، الحرص في كل الأحول على خلو استخدام حصيلة الصكوك من مخاطر النزوع السيئ، بمعنى أن بائع الصكوك سوف يستخدم الحصيلة فيما خصصت له، وهذا يضمن قدرته على خدمة موجودات الصكوك من حيث الصيانة والحفاظ على منافعها، وكذلك دفع أقساط الإيجار وغيرها من مستحقات حملة الصكوك.

ورابعًا، الحرص على أن كافة الاحتياطات قد اتخذت لكي لا يكون لدى حملة الصكوك حاجة إلى التصرف في موجوداتها بتأجيرها إلى جهة أخرى أو ببيعها. لأن حدوث ذلك، سوف ينزع من الصكوك عنصر الاستقرار، ويهدد السوق المالية كلها بالانهيار.

ومن غير الممكن القيام بالرقابة والإشراف على إصدار وتملك وتداول الصكوك بدون توفر بنية أساسية مناسبة تتضمن من ناحية سهولة إصدار صكوك متوافقة مع الشريعة، ومن ناحية أخرى تحقق قدرة السلطات الرقابية على التعامل مع ما قد يتصل بها من انحرافات وقائيًا وعلاجيًا.

وأول عناصر تلك البنية الاعتراف بعقود التمويل الإسلامي في القانون المدني، حتى لا تتعامل المحاكم مع تلك العقود كعقود ربوية، ولكي تقر بملكية حملة الصكوك للموجودات، وثانيها أن يصدر قانون للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية حتى تتمكن السلطات الرقابية من فحص وتدقيق المنتجات المالية بناء على مرجعية إسلامية وليس مرجعية ربوية لا تقبل اختلافات جوهرية بين المنتجات المالية الإسلامية والمنتجات التقليدية، ولا تستحل السلطات الرقابية لنفسها إصدار أوامر وتوجيهات عامة إلى البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية لا تتفق مع شروط ترخيصها بصفتها بنوك تعمل بالتوافق مع الشريعة.

وثالثًا، وضع ضوابط لحوكمة الهيئات الشرعية العاملة لدى البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، تمنع المدعين من الانتساب إليها، ولكي يتوقف سيل المنتجات المالية سيئة السمعة التي ترتكز على الصحة الشكلية دون صحة الغرض دون الانتباه إلى المآلات التي تترتب على تلك المنتجات، وحتى تقتصر عضوية تلك الهيئات على عدد فردي من علماء الشريعة الحاصلين على الدكتوراه في الشريعة من جامعات مرموقة، يساعدهم مستشار حاصل على الدكتوراه في اقتصاديات النقد والمال. كما يجب أن تدخل هيئات التصنيف مؤهلات أعضاء الهيئات الشرعية المشرفة على إصدار الصكوك في تصنيفها.

ورابعًا، لا بد من حوكمة الهيئة ذات الغرض الخاص التي تقوم بشراء الموجودات، وإصدار وتوزيع الصكوك، والتي تمثل في النهاية مصالح حملة الصكوك، بحيث يتملك حملة الصكوك حصصًا على المشاع فيها بنسبة ما يحمله كل منهم من الصكوك، ومن الممكن أن ينضم إليهم منشئ الموجودات كشريك بقيمة ما يحمله من الصكوك.

وفي النهاية تقدم الورقة مقترحين بشأن تفعيل دور الصكوك في مجال السياسات الاقتصادية والتنموية. الأول هو قيام البنك المركزي بإصدار صكوك إقراض مركزية، تستثمر حصيلتها من خلال وضعها كودائع ادخارية واستثمارية لدى البنوك الإسلامية، ويمكن أن يحقق تداولها تكوين سوق نقدية بين البنوك الإسلامية. كما يمكن أن تستخدمها السلطات النقدية كأداة للتحكم في معدل التوسع النقدي، والثاني أن تقوم المؤسسات العامة بإصدار صكوك تستخدم حصيلتها في توسيع نشاطها وتمويل رأسمالها العامل، بجانب تمويل المشروعات الكبرى، وبخاصة مشروعات البنى التحتية.

رابط مباشر لتحميل البحث