جريمة إبادة الجنس البشري (الإبادة الجماعية)

 لقد شهدت البشرية –ولا تزال- العديد من الجرائم الدولية التي يرتكبها البشر، سواء أكان ذلك في وقت السلم أم في وقت النزاعات المسلحة، وتأتي "جرائم إبادة الجنس البشري" على قمة الجرائم من حيث الخطورة والنتائج الوخيمة[1].

ويطلق على جرائم إبادة الجنس البشري اسم "جرائم الإبادة الجماعية"، وفي الحقيقة ما هي إلا تسميات مختلفة لمسمى واحد[2]، ويُذكر أن مصطلح "إبادة الأجناس" (Genocide)[3] مشتق من الكلمة اللاتينية (Genus)، وتعني الجماعة، ومن الكلمة اللاتينية (Cide)، ومعناها يقتل، ونتاجًا لذلك يعني المصطلح قتل أو تدمير الجماعة[4]، ويرجع الفضل في تسميتها بهذا الاسم إلى محامي يهودي بولندي "رفائيل ليمكين" الذي عمل مستشارًا للولايات المتحدة الأمريكية لشؤون الحرب في نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد أبيدت أسرته التي وقعت في الأسر من قبل النازيين[5].

وأكدت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة في قرارها رقم 96 في 11 ديسمبر 1946م، على أن جريمة الإبادة الجماعية هي جريمة دولية، يستهجنها المجتمع المتحضر، ويجب معاقبة مرتكبيها سواء كانوا فاعلين أصليين أم شركاء وبصرف النظر عن صفتهم حكامًا أم أفرادًا عاديين، وسواء قاموا بارتكابها على أسس تتعلق بالدين أم بالسياسة أم بالجنس[6].

وتوصف جريمة الإبادة الجماعية Genocide Crime بأنها أشد الجرائم الدولية جسامة وبأنها جريمة الجرائم[7]، فهي تمس أغلى ما يمتلكه الإنسان وهو الحق في الحياة، ولذا فقد صدرت العديد من القرارات الدولية التي تجرم أفعال الإبادة الجماعية منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة[8]، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى حقيقة مهمة مفادها أن الصراعات الدولية والإقليمية لم تخلو من تجاوزات تضمنت أمثلة صارخة على اقتراف هذه الجريمة، ومن أمثلة هذه النزاعات المسلحة تلك التي حدثت في أمريكا إبادة الهنود الحمر، وفي البلقان في البوسنة وكوسوفو تحددًا، وفي رواندا[9].

وتعرف الإبادة الجماعية بأنها "التدمير المتعمد سواء الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عنصرية أو عرقية أو دينية"[10]، وعرفتها المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية "بأنها أي فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه؛ إهلاكًا كليًا أو جزئيًا[11]:

  • قتل أفراد الجماعة.
  • إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة.
  • إخضاع الجماعة عمدًا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليًا أو جزئيًا.
  • فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة.
  • نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخري[12].

ويظهر من خلال استعراض هذا الّنص، وفي ضوء الخلفية التاريخية لهذه الجريمة، لا سيما الجرائم المرتكبة في "البوسنة" و "الهرسك" ضد المسلمين[13]، أن هذه الجريمة يمكن أن ترتكب في وقت الحرب والسلم، وبذلك عدّ النظام الأساسي للمحكمة الأعمال التي ترمي إلى إبادة الجنس البشري، جريمة دولية توجب معاقبة مرتكبيها بغض النظر عن زمن ارتكابها[14].

ووفق نظام المحكمة الجنائية تتميز هذه الجريمة بأنها ذات طبيعة دولية؛ والطبيعة الدولية لهذه الجريمة لا تعنى بالضرورة ارتكابها من مواطني دولة ضد دولة أخرى، ولكن قد تقع داخل الدولة الواحدة شرط أن تتحقق في أفعالها طبيعة الركن المادي لأفعال الإبادة الجماعية المنصوص عليها في الاتفاقية الدولية ونظام المحكمة الجنائية الدولية[15]، كما أن المسئولية المترتبة عليها هي مسئولية مزدوجة تقع تبعتها على الدولة من جهة، وعلى الأشخاص الطبيعيين مرتكبي الجريمة من جهة أخرى[16].

وعن موقف الشريعة الإسلامية نجد أنها حرمت أي فعل من أفعال جريمة الإبادة الجماعية، ولعل ذلك واضحًا في التصوير القرآني لجريمة الإبادة الجماعية؛ حيث قدم مثالًا واضحًا عن هذه الجريمة، وهي جريمة أصحاب الأخدود، والتي تم ذكرها في سورة البروج؛ حيث توعد الله سبحانه وتعالى القائمين على هذه الجريمة، بقوله جل وعلا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [سورة البروج: الآية 10] [17].

ويشير القرآن الكريم أيضًا إلى حقيقة اجتماعية تربوية مهمة، وهي أن قتل أي إنسان، إن لم يكن قصاصًا لقتل إنسان آخر، أو لم يكن بسبب جريمة الإفساد في الأرض، فهو بمثابة قتل الجنس البشري بأجمعه، كما أن إنقاذ إنسان من الموت يعد بمثابة إنقاذ للإنسانية كلها من الفناء، ووردت الكثير من الأحاديث النبوية التي تحرم القتل، وإبادة الجنس البشري، وكذلك أجمع فقهاء المسلمين على حرمة إهلاك النسل والحرث[18].

فقواعد وأحكام الشريعة الإسلامية ترفض رفضًا قاطعًا قتل أي إنسان دون وجه حق، ومن ثم فهي لا تقر بجريمة إبادة الجنس البشري، وتنظر إلى المدنيين أي غير المقاتلين بعين الرأفة والرحمة.


 [1] انظر: أيمن عبد العزيز محمد سلامة، المسئولية الدولية عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة الإسكندرية، 1426هــ/ 2005م، ص1.

[2] انظر: نوزاد أحمد ياسين الشواني، الاختصاص القضائي في جريمة الإبادة الجماعية، المؤسسة الحديثة للكتاب، بيروت، 2012م، ط1، ص34؛ نبيل أحمد حلمي، جريمة إبادة الجنس البشري في القانون الدولي العام، منشأة المعارف، الإسكندرية، بدون سنة نشر، ط1، ص17.

[3] Webster Comprehensive Dictionary, International Edition, 1977, P.527.

[4] أيمن عبد العزيز محمد سلامة، المسئولية الدولية عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، مرجع سابق، ص21..

[5] انظر: ناظر أحمد منديل، جريمة إبادة الجنس البشري، رسالة ماجستير، كلية القانون، جامعة بغداد، 2000م، ص3.

[6] انظر: محمد منصور الصاوي، أحكام القانون الدولي المتعلقة بمكافحة الجرائم ذات الطبيعة الدولية، دار المطبوعات الجامعية، مصر، 1984م، ص235.

[7] نسرين عبد الحميد نبيه، الجرائم الدولية والانتربول، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، 2011م، ص64.

[8] انظر: إبراهيم عبد ربه إبراهيم علي، مدى فعالية دور المحكمة الجنائية الدولية في مكافحة جرائم الإرهاب الدولي، مجلة الدراسات الفقهية والقانونية، المعهد العالي للقضاء، سلطنة عُمان، ع: 1، يناير 2019م، ص97.

[9] انظر: د. عبد الفتاح بيومي حجازي، المحكمة الجنائية الدولية "دراسة متخصصة في القانون الجنائي الدولي"، دار الفكر الجامعي، جمهورية مصر العربية، 2004م، ص313-314.

[10] راجع نص المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية.

[11] نص المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

[12] إبراهيم عبدربه إبراهيم علي، مدى فعالية دور المحكمة الجنائية الدولية في مكافحة جرائم الإرهاب الدولي، مرجع سابق، ص98.

[13] للمزيد من التفاصيل حول الجرائم المرتكبة في البوسنة والهرسك ومتابعة المسئولين عنها راجع: حسام على عبد الخالق الشيخة "المسئولية والعقاب على جرائم الحرب"، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، 2004م، ص489 وما بعدها.

[14] علي يوسف الشكري، القضاء الجنائي الدولي في عالم متغير، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2011م، ص138.

[15] عبد الفتاح بيومي حجازي، قواعد أساسية في نظام محكمة الجزاء الدولية، دار الكتب القانونية، 2008، ص31.

[16] عبد الواحد الفار، أسرى الحرب، عالم الكتب، القاهرة، 1975م، ص208؛ إبراهيم عبدربه إبراهيم علي، مدى فعالية دور المحكمة الجنائية الدولية في مكافحة جرائم الإرهاب الدولي، مرجع سابق، ص98.

[17] انظر: عبد المهدي جاسم محمد الخفاجي، الانحراف عن أحكام وقواعد الحرب في الشريعة الإسلامية "الإبادة الجماعية أنموذجًا"، رسالة ماجستير، كلية العلوم الإسلامية، جامعة كربلاء، العراق، 1437هــ/ 2016م،  ص128-133.

[18] المرجع السابق، ص132.

Rate this item
(0 votes)
Last modified on الجمعة, 03 تشرين2/نوفمبر 2023 12:29

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.