تصدير بقلم الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري رئيس مجلس الدولة*

By د. عبد الرزاق أحمد السنهوري تشرين1/أكتوير 09, 2023 421 0

طلب إلي الأستاذ حسن جلال العروسي أن أكتب كلمة أصدر بها هذا الكتاب الذي ترجمه إلى اللغة العربية في تاريخ النظريات السياسية.

ويسعدني أن أستجيب لهذا الطلب.

فالكتاب لأستاذ أمريكي كبير من أساتذة الفلسفة بجامعة كورنل، استعرض فيه تاريخ الفكر السياسي منذ العصور الأولى، وماشاه إلى العصر الحديث، وذلك في تحليل رائع، ونظرات نافذة، وتأصيل عميق.

 وهذا الجزء من الكتاب الذى يخرجه اليوم الأستاذ العروسي لقراء العربية يتناول من تاريخ الفكر السياسي الحقبة الأولى التي استغرقتها الفلسفة الإغريقية، والتي انطوت على نوع من النظام السياسي للدولة عُرف (بدولة المدينة). وقد وفق الأستاذ العروسي في ترجمة الكتاب كل التوفيق. فأسلوبه عربي رصين، وعباراته متخيرة منتقاة، لا تكلف فيها ولا ابتذال، وقد حرص كل الحرص على تأدية المعنى في دقة وأمانة.

وقدم للكتاب الدكتور عثمان خليل عميد كلية الحقوق بجامعة إبراهيم. والدكتور عثمان من خيرة فقهائنا في القانون العام. وقد أوحى إليه الكتاب بتقديم رائع، فيه من المعاني القوية والنظرات العميقة ما جعله يحلق في سماء الفكر السياسي، ويضيف ثروة فكرية جديدة إلى الثروة الضخمة التي يزخر بها الكتاب.

وقامت مؤسسة فرانكلين الثقافية بنشر هذا المؤلف القيم. وإن هذه المساهمة من جانبها لتستحق كل تقدير. ونرجو أن يكون في متابعتها نشر أمثال هذه الكتب القيمة مترجمة إلى اللغة العربية ما يدعم أواصر التجاوب الثقافي بين الفكرين الشرقي والغربي.

والموضوعات التي عرض لها هذا الجزء من الكتاب، تحت عنوان “دولة المدينة”، تتناول تحليل البيئة الفكرية التي سبقت سقراط ومهدت لظهوره، ثم تعرج إلى بسط أهم الأفكار التي انطوت عليها الفلسفة السياسية لثلاثة هم أكبر فلاسفة الإغريق: سقراط وأفلاطون وأرسطو. وقد تعاقب هؤلاء الفلاسفة الثلاثة واحدًا تلو الآخر، وكان الثاني تلميذًا للأول، والثالث تلميذًا للثاني، في عصر هو من أزهى عصور الفكر البشرى.

وأحسب أن هذا الكتاب قد طلع على القراء في وقت مناسب. ووجه المناسبة فيه أن مِصْرَ في سبيلها إلى وضع دستور جديد. فقد برمت بالدستور القديم، فعمدت إلى إلغائه. وسخطت على العهد الماضي، فتنكرت له. وقالت عن مساوئ ذلك العهد الشيء الكثير، فهو عهد لا يقيم وزنًا للدستور، ولا سيادة فيه للقانون. فالبلاد إذن في حاجة إلى أن تتعلم شيئًا جديدًا تقيم على أساسه دستورها الجديد. وفلسفة الإغريق السياسية -على بُعد ما بيننا وبينها من زمن- جديرة أن تعلمنا هذا الشيء الجديد. فهي تعلمنا مبدأ سيادة القانون. وهل يوجد مبدأ أجل وأنبل من مبدأ سيادة القانون، نراه يطالعنا من ثنايا الفلسفة الإغريقية، منقوشاً في كل صفحة من صفحاتها، وهو العصارة من تجارب أفلاطون، والصميم في فلسفة أرسطو؟ فلنتابعه إذن كما هو مبسوط في هذا المؤلف الجليل.

كان أفلاطون في شبابه، عندما كتب “الجمهورية”، يؤمن بحكومة الفلاسفة وبالحكم المطلق المستنير. فالحكم عنده لا يكون إلا لقلة من العلماء المستنيرين. وكان يرى من الحماقة أن تغل يد الحاكم الفيلسوف بأحكام القانون، وهذا الحاكم الفيلسوف، أو هذا العالم المستنير، يقوم سنده في تولى السلطان على الزعم بأنه هو الوحيد الذي يعرف طريق الخير والعدالة. واستبعد أفلاطون هذه الدولة المثالية التي صورها في “الجمهورية” فكرة القانون، وأبرز الدولة مؤسسة تفرض على المواطنين وصاية دائمة يتولاها الحاكم الفيلسوف.

وهذه الوصاية هي أسلم صور الحكم، بل هي وحدها الحكم الحقيقي، حيث يكون الحكام مستنيرين متمكنين من العلم، سواء حكموا بالقانون أو بغير القانون، وسواء رضيت عنهم رعاياهم أو كانوا غير راضين. فالحكم للعلم والمعرفة، وهو حكم الفرد المطلق، ولا حاجة فيه للقانون. لذلك كانت هذه الدولة المثالية من الكمال بحيث لا تتلاءم مع أحوال البشر. هي نموذج مَقرُه في السماء، يحاول البشر أن يحاكوه، ولكنهم لا يستطيعون أن يبلغوه.

ولما كان البشر لا يعيشون في السماء ، بل يعيشون في الأرض، فقد رأى أفلاطون نفسه، بعد أن تقدمت به السن، وأنضجته التجارب، وذاق مرارة الفشل في محاولته أن يقيم حكومة الفيلسوف في صقلية عن طريق تثقيف ملكها ديونيسيوس، مضطرًا أن يرجع عن رأيه، وأن يقبل حلا وسطًا في كتابه الثاني “السياسي”، فيقول: “علينا أن نتصور الدولة وما فيها من قوانين موروثة على أنها نوع من المحاكاة للمدينة السماوية. ولا أقل من أن نقرر ما لا شك فيه، وهو أن القانون أفضل من الهوى، وأن صلاح الحاكم الخاضع للقانون أفضل من تلك الإرادة التحكمية التي تصدر عن طاغية مستبد، أو عن حكومة بلوتوقراطية، أو عن حكم الغوغاء. ولا ريب كذلك في أن القانون هو بوجه عام قوة باعثة على الحضارة يصبح الإنسان بدونها -مهما تكن صفته– أخطر من الحيوانات المتوحشة”.

أدرك أفلاطون أن هناك فرقاً كبيرًا بين الخضوع لسلطان القانون، والخضوع لإرادة مخلوق من البشر، مهما انفرد بالحكمة والخير. ولم يرَ بُدًا من أن ينادى  بمبدأ سيادة القانون، وأن يقرر أن القانون وحده هو الذي يسود الحاكم والمحكوم.

فهو يكتب لأتباع ديون في صقلية: “لا تدعوا صقلية ولا أي بلد آخر يخضع لسادة من البشر، بل يجب ألا يخضعوا لغير القانون. ذلكم هو مذهبي. واعلموا أن الخضوع شر على كل من السادة والمسودين، عليهم جميعًا وعلى أحفادهم وذراريهم”.

ثم يعلن بعد ذلك إيمانه العميق بالقانون في كتابه الثالث “القوانين” فيقول: “فلنفرض أن كل واحد منا نحن المخلوقات الحية إن هو إلا دمية بارعة صنعتها الآلهة، ولسنا ندرى أكان غرضها من ذلك اللهو أم الجد. ولكننا تعلم حق العلم أن ما فينا من انفعالات هي كالأوتار أو الحبال التي تجذبنا، وأنها لتعارضها -فيما بينها- تجرنا إلى أفعال متضادة، فتبلغ الحد الذي يفصل بين الخير والشر. وهنا يحدثنا العقل أن كل واحد منا يجب أن يتمسك على الدوام بخيط واحد فقط من تلك القوى الدافعة له، وألا يدعه يفلت منه بأي حال من الأحوال ويقاوم شد الخيوط الأخرى: هذا الخيط هو الحاكم الذهبي، هو حكم العقل المقدس الذي يسمى القانون”.

والنظام الديمقراطي في أثينا من شأنه أن يعين أفلاطون على التمسك بمبدأ سيادة القانون. فقد كان القضاء مسيطرًا على الحياة العامة. فهو، فوق أنه يفصل في قضايا الأفراد المدنية والجنائية، يبسط رقابته على الموظفين، فيختبر صلاحية المرشح قبل توليه الوظيفة إذا أقيمت الدعوى بعدم صلاحيته، ثم هو يراجع أعمال الموظف بعد إنهاء خدمته، بل هو يجاوز رقابة الموظفين إلى رقابة القانون. فكان كل مواطن يستطيع أن يطعن في أي قانون بأنه مخالف للدستور، فيقف العمل بهذا القانون فورًا حتى تقضى المحكمة في شأنه، فيحاكم القانون على غرار محاكمة الأفراد، وللمحكمة أن تقضى بإلغائه. فالقانون إذن يخضع للدستور، والموظف يخضع للقانون. هذا هو مبدأ سيادة القانون كاملا، بلغت فيه أثينا مرتبة عليا، لم تبلغ مرتبة أعلى منها دولة متحضرة في العصر الحالي.

 ثم يأتي أرسطو بعد أفلاطون. والدولة الفاضلة عنده أساسها الاجتماعي هو وجود طبقة متوسطة قوية، «ليس أفرادها من الفقر بحيث تنكسر أجنحتهم، ولا من الغني بحيث ينشبون أظافرهم». وحيثما وجدت هذه الطائفة من المواطنين؛ كانت جماعة لها من اتساع صفوفها ما يكفل للدولة الارتكاز على أساس شعبي، ولها من التحرر عن الهوى ما يمكنها من مراقبة الموظفين المسئولين، ولها من طبيعة انتخاب أعضائها عاصم من مساوئ حكومات الجماهير.

ويحدثنا مؤلف هذا الكتاب عن أرسطو أن مثله الأعلى كان على الدوام الحكم الدستوري لا الحكم الاستبدادي، حتى لو كان هذا الاستبداد هو الاستبداد المستنير الذي يصدر عن الملك الفيلسوف؛ فهو إذن من أكبر المنتصرين لمبدأ سيادة القانون. ومن ثم فقد قبِل منذ البداية أن يكون القانون في أية دولة صالحة هو السيد الأعلى. فالقانون هو: “العقل مجردًا عن الهوى”. والحكم الدستوري يتمشى مع كرامة الرعايا وعزتهم، إذ إن الحاكم الدستوري يحكم رعاياه برغبتهم، وبذلك يختلف كل الاختلاف عن الدكتاتور الطاغية. وللحكم الدستوري كما يفهمه أرسطو عناصر رئيسية ثلاثة: أولها حكم يستهدف الصالح العام، وبذلك يتميز عن الحكم الطائفي الذي يستهدف صالح طبقة واحدة، وعن الحكم الاستبدادي الذى يستهدف صالح فرد واحد. وثانيها أنه حكم قانوني، أي أن الحكومة تدار فيه بمقتضى قوانين عامة لا بمقتضى أوامر تحكمية. وثالثها أن الحكومة الدستورية حكومة رعية راضية، فتتميز بذلك عن الحكومة الاستبدادية التي تستند إلى محض القوة.

هذان إذن رجلان من أكبر فلاسفة الإغريق، بل من أكبر فلاسفة العالم، يقولان بمبدأ سيادة القانون، ويقولان بهذا المبدأ منذ المراحل الأولى في تطور الحضارة البشرية. فأين من حكومة القانون حكومة المستبد العادل!

وهل يجتمع الاستبداد والعدل؟!!

لَتِلك خرافة إذا كان أفلاطون قد آمن بها في شبابه، فقد أدرك في شيخوخته أنها سراب لا وجود له. كان أفلاطون في بداية أمره كما قدمنا يؤمن بحكومة الفلاسفة حتى نراه يقول: “لا سبيل إلى تحقيق حياة أسعد للجنس البشرى إلا بإحدى وسيلتين، فإما أن يتولى مقاليد الحكم جمهرة الفلاسفة، وإما أن تتحول الطبقة الحاكمة بمعجزة من معجزات الإرادة الإلهية إلى طبقة من الفلاسفة”. فهو قد كان يعتقد ألا سبيل إلى تحقيق سعادة البشر إلا بأن يتولى الفلاسفة الحكم، أو بأن يصبح الحكام فلاسفة. ولكنه عدل بعد ذلك عن هذا الرأي، وعلم -بعد أن نضجت خبرته- أن الفلاسفة إذا تولوا الحكم فهم لا يلبثون أن يفسدوه، وأن الحكام إذا أصبحوا فلاسفة أسرعوا إلى ترك الحكم خشية أن يفسدهم. فالحكم الصالح لا تلتمسه فلسفة الإغريق في الحكم المطلق للفيلسوف، ولكن تنشده في مبدأ سيادة القانون.


*ينشر موقعنا -للمرة الأولى على شبكة الإنترنت- هذا التصدير المهم الذي كتبه العلامة الدكتور عبد الرزاق السنهوري للجزء الأول من كتاب “تطور الفكر السياسي”، لجورج هـ. سباين، وترجمة حسن جلال العروسي، طبعة دار المعارف عام 1954م.

Rate this item
(0 votes)
Last modified on الثلاثاء, 31 تشرين1/أكتوير 2023 08:43

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.