حصريًا: يوميات الحديبية*

By أ‌. د. محمد سليم العوَّا تشرين2/نوفمبر 03, 2024 1682 0

 

تمهيد:

1- اليوميات في المصطلح الحديث سجل لتجارب المرء وأفكاره، تُسَجَّلُ كل يوم أو كل بضعة أيام. والأصل في اليوميات أنها شخصية يكتبها صاحبها غير قاصدٍ اطلاع الناس عليها[1].

وتلقي اليومياتُ الضوء – عادة – على أحداث مدة زمنية معينة، أو عادات سادت في مجتمع ما في خلال المدة التي تغطيها اليوميات. وقد يكتب المرء يوميات نفسه وقد يكتبها شخص ملازم له، وهي في الحالين تعبر عن المنسوبة إليه[2].

2- وقد تطور أمر اليوميات فأصبحت تدوّن تأريخًا لأحداث بعينها، وتعدُّ ابتداء ليقرأها الكافة، وأمثلة ذلك لا تحصى في الكتابات التاريخية المعاصرة.

3- والأصل في فكرة اليوميات هو الارتباط الضروري بين الواقعة التاريخية وزمن حدوثها[3] وليس هذا التعبير بغريب عن مناهج تدوين التاريخ العربي والإسلامي، فقد كان العرب – قبل الإسلام – يسمون ما وقع في تاريخهم من حوادث ذات شأن باسم «يوم كذا» ويجمعونها على «أيام». وفي مصادرنا التاريخية ذكر «أيام» كثيرة للعرب قبل الإسلام، تحكي وقائع الحروب بين القبائل، وذكر «أيام» كثيرة بعد الإسلام تحكي حوادث التاريخ في العصر النبوي وبعده[4]. ويقول أهل اللغة: إن هذا استعمال مجازي لأن الأصل – عندهم – أن اليوم اسم للوقت مطلقًا، وجرى إطلاقه عرفًا على المدة التي تبقى فيها الشمس فوق الأرض، ثم استعمل على سبيل المجاز في معنى التأريخ[5].

4- وفي القرآن الكريم إشارات كثيرة إلى أحداث تاريخية بلفظ اليوم والأيام، من ذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة: 249]. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155]. وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41]. وقوله سبحانه وتَعَالَى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]. وقوله تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].

5- فهذه الآيات ونظائرها تؤدي إلى القول بأن سرد السيرة النبوية الشريفة في صورة يوميات مفصلة أمر متسق مع تذكير القرآن لمن خوطبوا به بوقائع التاريخ، ومتفق مع تسمية العرب لتاريخيهم بالأيام في صورتي الإفراد والجمع.

6- وبهذا المعنى لليوم فإن حياة النبي صلى الله عليه وسلم من أول البعثة إلى وفاته كلها (أيام) إذا لم يكن لعظم الأحداث التي وقعت فيها وأهميتها التاريخية، فلأهميتها تشريعًا وتعليمًا وهديًا نبويًا يجب الوقوف عليه رغبة في اتباعه والتأسي به.

7- لذلك سوغت هذه الدراسة لنفسها أن تقدم نموذجًا ليوميات السيرة النبوية المشرفة مأخوذًا من أيام الحديبية والسيرة.

8- والسيرة النبوية مما ينبغي أن يعنى به العلماء والمفكرون والدعاة والتربويون، في كل عصر، ليستخرجوا من دروسها عبرًا نافعة وحكمًا بالغة تيسِّر للمسلمين لاتباع المأمور به شرعًا قال تَعَالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

9- وبسبب الطريقة التي دونت بها السيرة النبوية لن تستطيع هذه الدراسة أن تضع تقويمًا لما جرى منذ خرج النبيصلى الله عليه وسلممن المدينة إلى أن عاد إليها بعد نحو شهر ونصف شهر، فقد أقام صلى الله عليه وسلم بالحديبية تسعة عشر يومًا أو عشرين ليلة واستغرقت رحلتا الذهاب والعودة سائر المدة، ولكنها سترتب الأيام بحسب الأحداث والوقائع وتسمى الأيام بما كان في كل منها دون أن تحدد كل يوم بموقعه من الشهر، وأظن أن ذلك سيكون شأن يوميات السيرة النبوية كلها. والله المستعان.

 

يوم الرؤيا

10- رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أنه دخل مكة وطاف بالبيت الحرام وأخذ مفتاح الكعبة، ووقف بعرفه، فاستبشر برؤياه خيرًا، وقص رؤياه على أصحابه الذين كانوا في غاية الشوق إلى مكة، بعد أن طال اغترابهم عنها بمقامهم في المدينة المنورة، نحو ست سنين، وكان النبيصلى الله عليه وسلميحببهم في الصبر على مناخ المدينة الذي لم يتعودوه، ويحثهم على تحمل المشقة فيها حتى قال لهم: «لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت له شفيعًا يوم القيامة أو شهيدًا»[6]. فاطمأن الصحابة بعد أن علموا بأمر الرؤيا النبوية إلى قرب دخولهم مكة ولو كانوا زائرين غير مقيمين وتشوقوا إلى ذلك.

 

يوم العزم

 11- عندما عزم النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج إلى العمرة أرسل إلى من حول المدينة، من أهل البوادي من الأعراب، ليخرجوا معه لأنه كان يريد أن يستكثر من الناس توقيًا أن تعرض قريش له بحرب أو بصدٍّ عن المسجد الحرام، ثأرًا للهزائم التي لحقتها في المواجهات العسكرية بينها وبين المسلمين.

12- وفي أواخر شهر شوال من سنة ست للهجرة قدم بسر بن سفيان بن عمرو الخزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا فقال له صلى الله عليه وسلم: «يا بسر لا تبرح حتى تخرج معنا فإنا إن شاء الله معتمرون»[7]. فكان هذا إيذانًا من الرسول صلى الله عليه وسلم بعزمه على المسير إلى مكة مريدًا العمرة، وفهم الصحابة منه أن عليهم التهيؤ لصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم في الرحلة التي طال انتظارهم لها، فأعدوا أنفسهم لذلك كلٌ بما استطاع من الزاد والعتاد.

 

يوم المسير

 13- لما كان أول أيام شهر ذي القعدة، سنة ست للهجرة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه من نسائه أم سلمة رضي الله عنها، ومن الصحابيات أم عمارة رضي الله عنها، وأم منيع أسماء بنت عمرو رضي الله عنها، وأم عامر الأشهلية رضي الله عنها، وخرج معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب نحو ألف وخمسمائة نفسٍ لا يشكون في الفتح للرؤيا المذكورة. ولم يكن معهم من السلاح غير السيوف في قرابها وساقوا الهدي معهم حتى وصلوا إلى ذي الحليفة.


يوم الإحرام

14- يوم وصل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى ذي الحليفة -وهو ميقات أهل المدينة- فأحرم النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة وأحرمت معه أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وغالب أصحابه وأحرم الباقون عند الجحفة[8]، وقد أحرم النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم الناس أنه لا يريد إلا البيت الحرام وتعظيمه ولم يقصد حرب قريش ولا غزو مكة[9].

 

أيام الرحلة

 15- مر النبي صلى الله عليه وسلم، بعد خروجه من المدينة، في طريقه إلى مكة المكرمة بالأعراب من بني بكر ومزينة وجهينة فاستنفرهم للخروج معه إلى العمرة فتشاغلوا بأموالهم وأهليهم، وقالوا فيما بينهم: «يريد محمد أن يغزو بنا إلى قوم معدين في الكراع والسلاح (الكراع كناية عن الخيل المجموعة)، وإنما محمد وأصحابه أكلة جزور[10]، والله لن يرجع محمد وأصحابه من سفرهم هذا أبدًا، قوم لا سلاح معهم ولا عدد»[11].

 16- وقد فضح الله تبارك وتعالى هذا الاعتذار الكاذب بقوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا. بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 11-12].

 17- وفي يوم من أيام الرحلة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكعب بن عُجرة رضي الله عنه، وقد أصابته هوام رأسه – وكان غزير الشعر وأصابته حشرات كالقمل ونحوه – وكان كعب محرمًا، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيؤذيك هوام رأسك»؟ قال كعب: «نعم» قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما كنت أرى الجهد بلغ بك هذا!» وأمره أن يحلق رأسه – وهو محرم – فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: «صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين فرقًا[12] أو أنسك ما تيسر لك»[13] أي اذبح شاة أو نحوها.

18- فكان التيسير على هذا المريض من رسول الله صلى الله عليه وسلم موافقًا لحكم الله الأزلي، الذي نزل به القرآن الكريم ليكون تخفيفًا دائمًا وتيسيرًا مستمرًا على الناس كافة إلى يوم القيامة، لا على كعب بن عجرة وحده[14].

 19- كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل بسر بن سفيان ليعرف له خبر قريش إذا علموا بمقدمه، فلقيَ النبي صلى الله عليه وسلم بغدير الأشطاط[15] فقال له: «يا رسول الله هذه قريش سمعت بمسيرك، فخرجوا ومعهم العُوذُ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله ألا تدخل عليهم أبدًا»[16]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله تعالى عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله تعالى به حتى يظهره الله – تعالى – أو تنفرد هذه السالفة»[17] أي يموت صلى الله عليه وسلم دون الحق الذي بعثه الله به.

 

يوم المشاورة

 20- شاور رسول الله  صلى الله عليه وسلم، أصحابه في أمر قريش وما أعدته لمنعهم من دخول مكة فقال له أبو بكررضي الله عنه: «يا رسول الله إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ونرى أن نمضي لوجهنا، فمن صدنا عن البيت قاتلناه»، ووافقه على ذلك أسيد بن حضير رضي الله عنه – من رؤوس الأنصار – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فسيروا على اسم الله» وموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرأي متسقة تمام الاتساق مع نيته الاعتمار لا القتال. ومواجهة من قد يصدهم عن البيت ليست قتالاً مبتدأ وإنما هي دفع صائل ظالم مما يجب على كل قادر أن يصنعه إذا واجهه مثل هذا الموقف.

وهذه المشاورة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هي المشاورة الوحيدة في أمر الحديبية كله... لأن أمر الحديبية كان مبناه الوحي من أوله إلى آخره[18].

 

يوم صلاة الخوف

 21- اقترب جيش المشركين بقيادة خالد بن الوليد حتى أصبحوا على مرأى من المسلمين، وصف خالد بن الوليد صفوف جيشه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشررضي الله عنه فتقدم عباد بمن معه من المسلمين في صفوفهم إزاء صفوف المشركين.

22- ودخل وقت الظهر فأذن بلال رضي الله عنه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بالناس وأنهوا صلاتهم ورجعوا إلى صفوفهم؛ فندم المشركون أنهم لم يميلوا على المسلمين في أثناء الصلاة، فقال خالد بن الوليد: «وقد كانوا على غرة (أي مشغولين بالصلاة) لو حملنا عليهم أصبنا منهم، ولكن تأتي الساعة صلاة أخرى هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم» فنزل جبريل بين صلاتي الظهر والعصر بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ [النساء: 102]. فصلى بهم رسول الله صلاة العصر، صلاة خوف، فقال المشركون: «لقد أُخبروا بما أردنا»، قال الإمام القرطبي «وهذا كان سبب إسلام خالد رضي الله عنه»[19].

23- ونزول هذه الآية كان تخفيفًا على المسلمين فقد أراد خالد أن يتحين وقت صلاة العصر ليغير عليهم فخفف الله عنهم صلاتهم، ولأن الصلاة فريضة لا تسقط بعذر الجهاد وقتال العدو شرع الله لعباده هذه الصلاة دفعًا للمشقة عنهم. وقد رأى بعض العلماء أن صلاة الخوف لا تجوز بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضل الائتمام به صلى الله عليه وسلم على سائر البشر.


يوم الثنية

24- أرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتجنب لقاء جيش المشركين فأمر أصحابه أن يسلكوا طريقًا غير الذي يؤدي إلى مواجهة خالد وخيله، فأخذ يسأل أصحابه عمن يعرف الطريق الآخر   –طريق ثنية الحنظل[20]– وكان طريقًا وعرًا ذا حجارة كثيرة وشوك وشجر ملتف، تناوب على قيادة الركب في ذلك الطريق الوعر بُريدة بن الحُصيب، فحمزة بن عمرو الأسلمي، فعمور بن عبد نُهم الأسلمي فكان هو الذي جاز بهم الثنية؛ فلما خرجوا إلى الأرض السهلة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا ذلك، فقال: «والله إنها للحِطة التي عُرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها»؛ والحطة كلمة دعاء بمعنى اغفر لنا ذنوبنا وقد عرضت على بني إسرائيل فأبوا أن يقولوها في قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [البقرة: 58-59]

ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجوز هذه الثنية الليلة أحد إلا غُفر له»[21].

 


يوم الإشارة (بداية الوحي)

 25- بعد أن ترك الركب عسفان واجتاز الطريق الوعر من ثنية الحنظل، وأصبح على مشارف الحديبية فاجأتهم ناقة النبي صلى الله عليه وسلم لما هبطت إلى الأرض المطمئنة الواسعة بأن بركت وأبت المسير فقال لها الناس «حل حل» وهي صيغة تزجر بها الناقة لتتحرك، فبقيت في مكانها لتتحرك، وألحت في القعود حيث هي. عندئذ دهش الناس لصنيع الناقة[22]، وصاح بعض الصحابة أن «خلأت القصواء... خلأت القصواء»[23]، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء، وليس هذا لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها»[24]، ثم زجر الناقة فقامت به فتوجه بأصحابه تلقاء الحديبية.

26- كان فعل الناقة هذا بمثابة الإشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن أمر الرحلة كله يجري بصنع الله ويتم على عينه[25]، وكان في تعريضه صلى الله عليه وسلم بقوله حبسها حابس الفيل ما يدل على أن امتناع الناقة عن المسير كان أمرًا ربانيًا مثل الذي كان من فيل أبرهه بامتناعه عن مهاجمة الكعبة، وهذا الفهم النبوي، الذي يفسر عزمه صلى الله عليه وسلم على قبول أي خطة تعرضها عليه قريش تحول بينهما وبين القتال وكأن الله تبارك وتعالى أراد بذلك عصمة نبيه من دخول مكة محاربًا.


يوم جاش البئر

 27- وصل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى الحديبية فنزلوا بها على بئر قليل ماؤها، فرفع منه المسلمون كل ما به من ماء، فلما نفد شكو لرسول الله العطش، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على حافة البئر، ثم دعا بإناء فتوضأ فيه ثم مضمض ودعا، ثم صب الماء في البئر وانتزع سهمًا من كنانته فأعطاه لناجية بن الأعجم رضي الله عنه وأمره أن يثير بالسهم ماء البئر، قال ناجية: «ففعلت، فوالذي بعثه بالحق ما كدت أخرج حتى يغمرني الماء وفارت كما تفور القدر...»[26]. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومها نحو ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة فشربوا جميعًا حتى ارتووا.

 

يوم الوفد

28- لما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، جاءه بُديل ابن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه، لم يكونوا كلهم أسلموا ولكنهم كانوا ممن يقدرون رسول الله صلى الله عليه وسلم قدره وينصحون له مخلصين، وكانوا لا يخفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا. فأتوا رسول الله وأخبروه خبر فريش، وأنهم «أقسموا بالله لا يخلون بينه وبين البيت حتى تبيد خضراؤهم»[27].

29- فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نأت لقتال أحد، إنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه. إن قريشًا قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة يأمنون فيها، ويخلون بيني وبين الناس... وإن ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، أو يقاتلوا وقد جموا (أي استراحوا) وإن هم أبو فوالله لأجهدن على أمري هذا... وليُنفذن الله، تعالى، أمره»[28].

30- وفي جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم- لما جاء به بديل بن ورقاء من خبر قريش – دليل تمسكه صلى الله عليه وسلمبما عزم عليه من إمضاء أي خطة أو اتفاق تعرضه قريش يحقن الدماء، بل كان هو البادئ بعرض تلك الخطة على بديل بن ورقاء حرصًا منه صلى الله عليه وسلم- كما قال الحافظ بن حجر – على: «صلة الأرحام، والإبقاء على من كان من أهلها، وبذل النصحية للقرابة»، وقد دل هذا، عند ابن حجر، على «ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من القوة والثبات في تنفيذ حكم الله وتبليغ أمره»[29].

31- أخبر بديل قريشًا بما قال النبي صلى الله عليه وسلم له، فقال لهم عروة بن مسعود الثقفي أن ما جاءكم به بديل لهو خطة رشد لا يردها أحدٌ إلا شرٌ منها، وطلب منهم أن يبعثوه لمحمد صلى الله عليه وسلم ليأتيهم بمصداق هذه الخطة ويكون لقريش عينًا على محمد وأصحابه فبعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم[30].

 

يوم استقبال الرسل

32- كرر عروة بن مسعود كلام بديل بن ورقاء على النبي صلى الله عليه وسلم من استعداد قريش للقتال ولمنعها للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دخول مكة في عامهم هذا؛ وأضاف – مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك من قتالهم بين أحد أمرين: بين أن تجتاح قومك، ولم يُسمَعْ برجل اجتاح قومه وأهله من قبل؛ أو بين أن يخذلك من ترى معك» واستخف بمن مع النبي صلى الله عليه وسلممن الصحابة[31]، مؤكدًا أنهم خاذلوه ولن يصمدوا معه في القتال إن هو قاتل.

33- كان أبو بكر رضي الله عنه حاضرًا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فرد على عروة ردًا قاسيًا فقال عروة «أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبينك» أي لولا مالك من فضل علي لرددت عليك جوابك القاسي هذا؛ وقد كان عروة قد استعان في دفع ديات عليه فأعانه أبو بكر بالمال الكثير[32].

 34- كان عروة بن مسعود في أثناء حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يمد يده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، وهذا الفعل عادة من عادات العرب إذا أراد المتحدث أن يظهر بره ووده لمن يكلمه أو إشفاقه عليه، وكان المغيرة بن شعبة واقفًا عند رأس رسول الله لابسًا المغفر[33] متخفيًا به من عروة بن مسعود وهو من عمومته، فكان كلما مد عروة يده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم قرعها، (أي ضربها)، بأسفل قراب سيفه، ويقول له: «اكفف يدك عن مسِّ لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألا تصل إليك»[34]، كراهة أن يمس لحية رسول الله مشرك، فغضب عروة وقال للنبي: «ليت شعري!! من هذا الذي آذاني من بين أصحابك؟» فلما علم أنه ابن أخيه كلمه بكلام يذكره فيه بفضل عليه قديم(!).

35- رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عروة بمثل ما رد على بديل بن ورقاء، وخرج عروة إلى قريش فأخبرهم بما كان، ووصف لهم تعظيم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إياه، وأنهم لن يسلموه أبدًا، وأن الرجال والنساء منهم في ذلك سواء وقال: «والله لقد رأيت معه نساء ما كن ليُسلمنه على حال»[35]؛ ونصحهم بأن يخلوا بين المسلمين وبين البيت الحرام فلما رفضت قريش تركهم وانصرف إلى الطائف.

36- أرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد عروة بن مسعود، الحُليس بن علقمة الكناني أحد رؤوس قبائل مكة، وكان من قوم يعظمون الهدي ويتألهون – أي يتعبدون ويتنسكون، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم أمامه الهدي فلما رآه قال: «سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصدوا عن البيت... هلكت قريش ورب الكعبة»! ثم عاد إلى قريش فأمرهم بمثل ما أمر به عروة بن مسعود، فلما أبوا انصرف بمن معه من قبيلته وحلفائها غاضبًا بما تصنع قريش بقوم أرادوا اعتمار البيت وساقوا الهدي[36].

 37- خسرت قريش حلفائها بإصرارها على موقفها من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من دخول مكة، وتبين لمن أرسلتهم قريش موقف محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من القوة والمنعة فها هو عروة بن مسعود ينقض كلامه الأول بعد أن أتى النبي مُخذلا له بأن أصحابه نفر قليل لن ينصروكم وسيسلموك لقريش أسيرًا، فأخبر قريش بما رآه من ذب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عنه وتوقيرهم له؛ وتبين لهم أيضًا أنه أتى ليعتمر ويطوف بالبيت الحرام ولم يأت مقاتلا. وهكذا تواترت ثلاث روايات نقلت إلى قريش من أشخاص غير مسلمين تؤكد كلها موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه.

 

يوم إرسال الرسل

38- كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل خراش بن أمية رضي الله عنه رسولاً إلى قريش – قبل أن أي من رسل قريش- على جمل له يسمى «ثعلب» ليبلغهم بأنه أتى معتمرًا ولم يأت محاربًا، ولكن قريشًا كان قد بلغ غضبها مداه فذبح عكرمة بن أبي جهل الجمل، وأرادت قريش قتل خراش إلا أن الأحابيش، وهم القبائل التي حالفت قريشًا في حربها ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، منعت قريشًا من قتله وخلوا سبيله فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان.

39- رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعقاب ذلك أن يرسل واحدًا من كبار الصحابة إلى قريش فدعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليقوم بهذه المهمة فقال «يا رسول الله إني أخاف قريشًا على نفسي وقد عرفت قريش عدواتي لها، وليس بها من بني عدي من يمنعني، وإن أحببت يارسول الله دخلت عليهم... ولكني أدلك على رجل أعز بمكة مني... يبلغ لك ما أردت، عثمان بن عفان»[37].

وليتأمل من أحب موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وهو المعروف بقوته وشجاعته وصدق بأسه في الحق – وكيف خاف هنا على نفسه التهلكة فلم يمنعه شيء أن يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتذر عن قبول المهمة التي كلفه بها؛ وليتأمل مع ذلك موقف عثمان بن عفان رضي الله عنه، المشهور برقته ولين جانبه كيف لم يتردد لحظة في تنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وليعلم من ذلك أن لكل حال ما يناسبها من المواقف... وأن الرجال المصطفين لصحبة الرسل ينزلون كل قول في موضعه ويتصرفون في كل حال بما يليق بها[38].

40- دعا الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فقال له: «اذهب إلى قريش وأخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمارًا، وادعهم إلى الإسلام»[39]. وأمره أن يبشر مسلمي مكة بقرب الفتح وبأن الله تعالى سيظهر دينه بمكة فلا يستخفى فيها بالإيمان[40].

41- وفي هذه البشارة تعبير صادق عن قوة يقين رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقته بوعد ربه التي جعلته يبشر المستضعفين بمكة بفتحها واستعلاء الإيمان فيها وإظهار الله دينه على الشرك وأهله، كل ذلك وهو صلى الله عليه وسلم وأصحابه ممنوعون من دخول مكة[41].

يوم الصد

 42- سمعت قريش مقالة عثمان رضي الله عنه، ورفضت ما أتى به وقالوا له: «قد سمعنا ما تقول، ولا كان هذا أبدًا، ولا دخلها علينا عنوة، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا»[42].

 43- وأتى عثمان رضي الله عنه المستضعفين من المؤمنين والمؤمنات، فبشرهم ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، ففرحوا واطمئنوا، وقالو له «اقرئ رسول الله منا السلام».

44- وكان من تعظيم عثمان رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما فرغ من رسالته إلى قريش قالوا له: «إن شئت أن تطوف بالبيت فطف» فقال عثمان لهم «ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم».

 

يوم الغدر

 45- بقيت هواجس السوء تراود قريشًا طول إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية، فعلى الرغم من توالي الرسل بينهم وبين المسلمين، وعلى الرغم من تأكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لم يأتوا لقتال وإنما جاءوا معتمرين، فإن حقد قريش على المسلمين، وَوَجْدها لما أصابها في حروبها معهم دفعها إلى محاولة الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

 46- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلمقد أمر أصحابه بتناوب الحراسة ليلاً، فكان ثلاثة يتناوبون الحراسة، وفي إحدى الليالي – وقد كانت نوبة حراسة محمد بن مسلمة – فأرسلت قريش خمسين رجلاً يقودهم مكرز بن حفص بن الأحنف، أمروهم أن يطوفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لعلهم يصيبوا منهم أحدًا ويأخذوهم على غرة، فأوقع بهم محمد بن مسلمة أسرى إلا مكرز بن حفص الذي هرب عائدًا إلى قريش مخبرًا لهم بما لحقهم من الهزيمة؛ وفي محاولة قريش تخليص أسراها من أيدي المسلمين خرج جمع منهم وتراشقوا هم والمسلمون بالنبل والحجارة فقتلوا رجلاً مسلمًا يقال له ابن زُنيم، وأسر المسلمون من المشركين اثني عشر رجلاً وفر الباقون.

 

يوم العفو

 47- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعفو عن أسرى المشركين لكنه لم يطلق سراحهم حتى يرجع عثمان ومن معه وكانوا عشرة نفر. فأرسلت قريش سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأخبر سهيل رسول الله بأن أمر القتال لم يكن من رأيهم وإنما كان رأي سفهائهم وطلب منه إرسال الأسرى معه بعد أن عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا، فلما طلبهم سهيل قاله له: «إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي» قال سهيل: «أنصفتنا...».

 

يوم البيعة

 48- في أثناء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهيل بن عمرو أتى من أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان رضي الله عنه ومن معه قد قتلوا في مكة فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن دعا أصحابه إلى البيعة.

 49- جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة خضراء وقال: «إن الله أمرني بالبيعة» فأقبل الناس يبايعونه حتى تزاحموا زحامًا شديدًا، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم" «يا أيها الناس البيعة البيعة، نزل روح القدس فاخرجوا على اسم الله»؛ فخرج الناس مسرعين يبايعون وقد حملوا ما كان معهم من سلاح، وقامت أم عمارة الأنصارية رضي الله عنها تتسلح بعمود كانت تستظل به، وربطت سكينا في وسطها(!).

50- كان أسبق الناس إلى البيعة أبو سنان الأسدي رضي الله عنه فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبسط يدك أبايعك! فقال صلى الله عليه وسلم «علام تبايعيني»؟ قال: «على ما في نفسك» فقال النبي: «وما في نفسي»؟ قال: «أضرب بسيفي بين يديك حتى يظهرك الله أو أقتل» فبايعه، وبايع الناس على بيعة أبي سنان[43].

 51- وبايع الناس يومها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يفروا وعلى الموت، والمعنى واحد؛ وقد أثنى الله تبارك وتعالى على الذين بايعوا بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 10]، وأخبر تبارك وتعالى نبيه برضاه عن أصحابه فقال ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 18]. ولذلك سميت «بيعة الرضوان».

52- وبايع عبد الله بن عمر رضي الله عنه مرتين، فقد كان أبوه أرسله في حاجة له، فرأى الناس ملتفين حول النبي صلى الله عليه وسلم يبايعونه فبايع، ثم عاد فبايع مع أبيه، فكان له يومها بيعتان.

 53- وبايع يوم بيعة الرضوان الرجال والنساء جميعًا، فكان الذين بايعوا يومئذ نحو خمس عشرة مائة من المهاجرين والأنصار، فقال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الناس أحد بايع تحت الشجرة»[44]؛ ولم يتخلف أحد إلا رجل واحد: الجد بن قيس الأنصاري، ولم يثبت في المروي أي لوم في شأنه، وما نزل في سورة الفتح فقد كان في حق الذين تخلفوا من الأعراب[45]. جاء الوحي بذم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنًا منهم أن الله غير ناصره، وتوعدهم بالهلاك ﴿وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾. وسكت الوحي عمن أقعده عن البيعة على القتال خلق شخصي، هو ضعف لا مراء، لكنه لا يقدح في دينه ولا في تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم.

 54- وصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم يده باليد الأخرى وهو يقول: «اللهم إن عثمان في حاجتك، وحاجة رسولك»[46] فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيرًا من أيديهم لأنفسهم[47]. وهذا الفعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن متيقنًا من صحة خبر مقتل عثمان، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايع له وهو مقتول، كما يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم على علم بصحابته وأن عثمان رضي الله عنه لو كان حاضرًا يومئذٍ لبايع مع المبايعين.

55- كان لما رأه سهيل بن عمرو ومن معه من المشركين أشد الأثر في تغيير قرارهم فيما هم فاعلون بالمسلمين، فقد اشتد رعبهم وفزعهم لما رأوا سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب، وأسرعوا إلى قريش يخبرونهم بما كان؛ ولم تر قريش سبيلاً أفضل من قبول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عقد هدنة محدد المدة[48].

56- كان أمر هذه البيعة كله – كسائر شأن الحديبية – وحيًا من السماء «نزل روح القدس بالبيعة». ولم يكن خبر مقتل عثمان إلا سببًا ساقه الله تبارك وتعالى للمؤمنين لتكون بيعتهم على ما كانت عليه من صدق وتصميم وإخلاص، ولتعرف قريش أن محمدًا صلى الله عليه وسلم  في منعة من أصحابه، وأنهم ناصروه ومفدوه بأرواحهم؛ وأن الله أوحى لنبيه بالبيعة في هذا الوقت حتى يشهدها سهيل بن عمرو ومن معه فيخبروا بها من وراءهم من قريش.

 57- ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.

بينما عثمان رضي الله عنه ومن معه في مكة قال بعض المسلمين وهم بالحديبية، قبل أن يرجع عثمان، خلص عثمان من بيننا إلى البيت فطاف به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون». فقالوا: «وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص إليه؟» قال: «ذلك ظني به! ألا يطوف بالكعبة حتى نطوف!».

فلما عاد عثمان رضي الله عنه ومن معه من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له المسلمون: «أشتفيت من البيت يا أبا عبد الله»؟ (يريدون طفت به) فقال لهم عثمان: «بئس ما ظننتم بي! فوالذي نفسي بيده لو مكثت مقيمًا بها سنةً ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ما طفت حتى يطوف رسول الله. ولقد دعتني قريش إلى أن أطوف بالبيت فأبيت!» قالوا: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمنا وأحسننا ظنًا»[49]!

 58- ورجع سهيل بن عمرو ومن معه إلى مكة بما معهم من خبر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفعلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ما كان من خبرهم الذي بلغهم ممن أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل؛ فقال أهل الرأي منهم بأن يرجع محمد ومن معه عن مكة هذا العام على أن يعودوا في العام المقبل فيعتمروا ويقيموا بمكة ثلاثة أيام ثم ينصرفوا من حيث أتوا، ولم تزل قريش ترد لسهيل قولها القديم «والله لا تتحدث العرب أن محمدًا دخل علينا عنوة».

 59- وكان قريشًا أخذتهم العزة بالإثم – بعد كل الذي كان – فأصروا على منع المسلمين من دخول مكة إظهارًا لعزتهم وقوتهم. ولكن إرادة الله الغالب ردت قصدهم عليهم، وحولت الحديبية من قهر المسلمين إلى نصر وعزة لهم، فقد أصبح عدد المسلمين يوم فتح مكة، بعد سنتين اثنتين من الحديبية، عشرة آلاف بعد أن لم يزيدوا فيها على ألف وخمسمائة نفس؛ فذل المشركين من حيث أرادوا العزة وقهروا من حيث أرادوا الغلبة.

 


يوم الصلح

 60- عاد سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا»؛ جلس سهيل على ركبتيه مواجهًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطال الكلام، وارتفعت الأصوات، وجرى القول بينهما حتى اتفقا على أن تكون الهدنة مدتها عشر سنين يأمن الناس بعضهم بعضًا، وأن يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العام ويعود في العام المقبل مدة ثلاثة أيام فقط، ويدخلوها دون سلاح إلا السيوف في قربها؛ وأن من أتى محمدًا بغير إذن وليه رده محمد إليه؛ ومن أتى قريشًا ممن اتبع محمدًا فإنها لا ترده إليه، ومن أراد من العرب الدخول في حلف محمد دخل ومن أراد الدخول في حلف قريش دخل، فدخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل بنو بكر في عهد قريش.

61- ولم يَرْضَ الصحابة بشروط الصلح ووثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى رسول الله مبديًا اعتراضه على الصلح، وأنهم جاءوا ليعتمروا وأن منعهم من دخول مكة هو خضوع من جانبهم للمشركين لا مسوغ له وهم عندهم القدرة على القتال وجرى بينهما حوار كان مما قاله عمر فيه: «فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ ونرجع ولم يحكم الله بينا وبينهم؟» فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني عبد الله ورسوله، ولست أعصيه، ولن يضيعني الله وهو ناصري»؛ لم يقتنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذا الرد فعاد يقول للرسول صلى الله عليه وسلم «أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف حقًا؟» قال «بلي»، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قال «لا» قال: «فإنك آتيه ومطوّف به».

62-  فذهب عمر إلى أبي بكر وقال له ما قاله للنبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه أبو بكر رضي الله عنه بمثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم[50]؛ قال عمر عن نفسه: «والله ما شككت قط منذ أسملت إلا يومئذ»، «فجعلت أتعوذ من الشيطان حياءً فما أصابي شيء قط مثل ذلك اليوم»؛ وكان عمر إذا حكى هذه الواقعة يقول: «اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم... حتى قال يا عمر: تراني رضيت وتأبى» قال عمر: «فما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق..» [51].

63- ورغم عدم رضا الصحابة – كما رأينا من موقف سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه- فإن ما جرى الاتفاق عليه لم يكن من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان وحيًا يؤمر به النبي صلى الله عليه وسلم فينفذه؛ رأى إشاراته عندما خلأت القصواء، وعبر عما يراه بعزمه على خطة الصلح، وصرح به عندما نادى بالبيعة وبأنها وحيٌ رباني، فلذلك أمضى صلى الله عليه وسلم شروط قريش، رغم ما رأى فيها الصحابة من خضوع وتسليم للمشركين لأن الأمر لم يكن محلاً للمشاورة ولا أخذ الرأي {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].

 

يوم الكتابة

64- كانت المناقشة عسيرة والمفاوضات شاقة خاصة في ظل غضب الصحابة وعدم رضاهم عن الشروط التي وضعتها قريش، ولكن هذه المشقة لم تكن شيئًا مذكورًا إذا قيست بما لقيه المسلمون من العنت عندما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يملي نص الكتاب أو الوثيقة.

65- كان كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم». قال سهيل بن عمرو: أما الرحمن الرحيم فوالله ما أدري ما هو(!) ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب. اكتب في قضيتنا[52] ما نعرف. وكلام سهيل يحكي قول الذين وصفهم رب العالمين بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60].

 66- قال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: «اكتب باسمك اللهم»! ثم استطرد النبي يملي: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله». فقال سهيل بن عمرو: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، اكتب في قضيتنا ما نعرف، اكتب محمد بن عبد الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم، لعلي: «امحه»! فقال عليٌ: ما أنا بالذي أمحاه، وفي رواية أن عليًا جعل يتلكأ، وأبى أن يكتب إلا: محمد رسول الله. ولم يكن ذلك عصيانًا من علي لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان من باب الأدب الواجب، أو المستحب، مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى بعض كتاب السيرة أن أسيد بن الحضير وسعد بن عبادة رضي الله عنه، أخذا بيد علي رضي الله عنه ومنعاه أن يكتب إلا: «محمد رسول الله» قالا: وإلا فالسيف بيننا وبينهم؛ وارتفعت أصوات الصحابة، وشق عليهم ما يطلبه سهيل من محو صفة النبوة أو الرسالة، وغضبوا غضبًا شديدًا، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخفضهم، ويومئ إليهم: «اسكتوا».

ثم قال لعلي: أرنيه (أي الكلام)، فأراه إياه، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وقال: اكتب «محمد بن عبد الله».

قال الزهري: وكان ذلك كله لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسألوني خطة يريدون بها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» وفي رواية (خطة يعظمون بها حرمات الله)[53].

67-  فلما بلغ الكتاب شرط أن من أتى مسلمًا من المشركين بغير إذن وليه رده المسلمون إلى وليه، وأن من أتى المشركين ممن كان مسلمًا لم يرده المشركون إلى المسلمين، قال المسلمون، وهم غِضاب، «سبحان الله: أيكتب هذا؟ كيف يردُّ إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟».

68-  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم إلينا سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا»[54].

 69- كان أول من جاء، ولما تتم كتابة المعاهدة بعد، هو أبو جَنْدَل عبدالله بن سهيل بن عمرو، كان أبوه قد سجنه لما علم بإسلامه، فهرب من سجنه واجتاز الجبال حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالحديبية فرحب به المسلمون، وهنأوه بخروجه من أسر أبيه، وقام إليه أبوه يضربه بغصن شوك، وقال: «يا محمد، هذا أول ما أقاضيك عليه»، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نقض الكتاب بعد»؛ قال سهيل: «إذا لا أصالحك على شيء أبدًا».

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأجزه لي» (يعني اتركه لأجلي)؛ قال سهيل: «ما أنا بمجيزه لك»! قال النبي: «بلى فافعل» قال سهيل: «ما أنا بفاعل»!

70-  وجعل أبو جندل يستغيث بالمسلمين ألا يردوه إلى المشركين لما كان لقيه منهم من الأذى والعذاب، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته وقال: «يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا. إنا قد عقدنا مع القوم صلحًا وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهدًا، وإنا لن نغدر بهم»[55].

وأخذ عمر بن الخطاب يمشي إلى جنب أبي جندل، ويقول له: «اصبر واحتسب، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب»، وجعل عمر يدني قائم السيف من يد أبي جندل وقال عمر: «رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه فضن الرجل بأبيه»!

 71- زاد أمر أبي جندل المسلمين همّا على ما كان بهم مما وقع عند كتابة الصلح بين الطرفين. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مضى لما أمره به ربه – سبحانه – من الصلح، فتمت كتابة الكتاب، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة أن ينسخ منه نسخة لسهيل بن عمرو، واحتفظ المسلمون بالأصل الذي كتبه علي بن أبي طالب رضي الله عنه[56].

 72- وشهد على الكتاب نفر من المسلمين ونفر من المشركين، فكان ممن شهد من المسلمين أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن سهيل بن عمرو (أبو جندل) وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة، أجمعين.

 

يوم المشورة

 73- لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو من كتابة الصلح والإشهاد عليه، قال صلى الله عليه وسلم لمن معه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا». فلم يقم منهم أحد، فقالها لهم مرة ثانية ومرة ثالثة، فلم يستجيبوا(!)[57].

74- شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، واشتد عليه، فدخل خباءه وفيه أم سلمة رضي الله عنه، فعرفت الغضب في وجهه، فسألته عن الأمر، فقال لها: «هلك المسلمون، أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا» وفي رواية: «يوشك أن تنزل على هؤلاء حجارة من السماء...» وفي رواية ثالثة: «ألا ترين إلى الناس آمرهم بالأمر فلا يفعلونه، وهم يسمعون كلامي وينظرون وجهي»؟! قالت أم سلمة: «يا رسول الله لا تَلَمُهُم! فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح، وبرجوعهم بغير فتح (أي دون أن يدخلوا مكة ويعتمروا). يا نبي الله، اخرج ولا تكلم منهم أحدًا كلمة، حتى تنحر بُدنَكَ وتدعو حالقك فيحلقك»[58].

75- استجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لنصيحة أم سلمة، التي طيبت خاطره على أصحابه، والتمست لهم العذر، ودلته على سبيل يضمن له أن ينفذوا ما أمرهم به؛ فخرج إلى بدنه فنحرها مكبرًا «باسم الله والله أكبر»؛ فتواثب المسلمون إلى الهدي ينحرونه. ثم دعا صلى الله عليه وسلم بخراش بن أمية فحلق له رأسه، فجعل الصحابة يتسابقون إلى الحلق وقد أخذهم غم عظيم لتأخرهم عن تنفيذ أمر رسول الله حتى كاد بعضهم أن يقتل بعضًا لشدة تعجلهم في الحلق لئلا يسبقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

76-  فجلى الله تعالى عن الناس بمشورة بأم سلمة رضي الله عنه، وطيبت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنقذت المسلمين فلولاها لهلكوا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

 

يوم المباركة

77-  بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه رحلة عودتهم إلى المدينة، وفي الطريق نفد منهم طعامهم فذهب نفر منهم يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم  في نحر الإبل التي معهم لأكل لحومها واستخدام شحومها وجلودها، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأن «لا تفعل، فإن يكن في الناس بقية ظهر يكن أمثل (أي أفضل) كيف بنا إذا لقينا عدونا غدًا جياعًا رجالاً (أي مشاة)؟ ولكن إن رأيت أن تدعو الناس فيأتوا ببقايا أزوادهم فتجمعها ثم تدعو فيها بالبركة فإن الله سيبلغنا بدعوتك»؛ ففعل صلى الله عليه وسلم ذلك فأكلوا حتى شبعوا وبقي من الطعام مثله، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه[59].

ثم تحرك الركب فأنزل الله تبارك وتعالى مطرًا غزيرًا، وكان الوقت صيفًا، فَنَزلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل الصحابة، فشربوا من ماء السماء حتى رووا.

 


يوم الفتح

78-  لما استأنف المسلمون سيرهم نحو المدينة المنورة قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هذا بفتح! لقد صُددنا عن البيت وصُدَّ هدينا؛ وردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من المؤمنين كانا خرجا إلينا»؛ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بئس الكلام! بل هو أعظم الفتح قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح[60] عن بلادهم. ويسألوكم القضية (أي الصلح)، ويرغبون إليكم في الأمان، ولقد رأوا منكم ما كرهوا (أي من الثبات والاجتماع على النبي صلى الله عليه وسلم والطاعة له) وأظفركم الله، تعالى، وردكم سالمين مأجورين، فهذا أعظم الفتح! أنسيتُم يوم أحد؟؟! إذ تُصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟! أَنَسِيتُم يوم الأحزاب؟؟! إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا»؟! فقال المسلمون: «صدق الله ورسوله، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأَنتَ أعلم بالله وبأمره منا»!![61].

79- ولم يمض إلا قليل حتى نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بسورة الفتح: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ليَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مسْتَقِيمًا﴾ [الفتح: 1-2].

80-  وبلغ الناس نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا إليه فقرأ عليهم أول السورة ، فقال رجل: (قيل إنه عمر بن الخطاب) رضي الله عنه «أو فتح هو يا رسول الله؟» قال: «إي والذي نفسي بيده إنه فتح»[62]! وقال رجال من المسلمين: «يا رسول الله هنيئًا مريئًا لك يا رسول الله، قد بيَّن الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعلُ بنا[63]؟» فنزل عليه قول الله تعالى: ﴿لَيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 5].

81-  وكان جبريل قد هنأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالبشارة الربانية في مطلع سورة الفتح، ولذلك هنأه المسلمون بها؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «لقد أنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس»[64] أو «هي أحب إلي مما على الأرض»[65].

***

   كانت الحديبية. والصلح الذي تم فيها. مبدأ الفتح للإسلام والمسلمين. فقد ترتب على هذا الصلح أن أمن الناس. المسلمون والمشركون جميعًا. وتمكن من أراد الدخول في الإسلام. وكان يخشى سطوة قومه. أن يُظهر دينه، وأن يهاجر إلى المدينة، بل فعل ذلك بعض رؤوس قريش نفسها كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما. قال الإمام الزهري: «لم يكن في الإسلام فتح قبل الحديبية هو أعظم منه... فما أمن الناس كلهم، كلَّم بعضهم بعضًا... ولم يُكّلَّم أحد بالإسلام يعقل شيئًا إلا بادر بالدخول فيه. فلقد دخل في تلك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر»[66].

ثم توالت الأسباب حتى فتحت مكة نفسها ودانت للإسلام أرض العرب كلها؛ فكان ظاهر الصلح أن المسلمين ظُلِموا وهزموا، وكان باطنه أنهم انتصروا وعزّوا!!

*********

لقد تركت هذه اليوميات - مراعاة لطبيعة مناسبة كتابتها - كثيرًا من الدروس والعبر التي تضمنتها رحلة الحديبية، ولم يكن ذلك إهمالاً لهذه الدروس ولا غفلة عنها، ولكن مقام الإيجاز غير مقـام الإطناب، ومقام الإشارة الدالة الموحية غير مقام الحكاية المفصلة الجامعة؛ ففي الحديبية سفر وإقامة؛ وحرب وسلم؛ وفيها تربية وتعليم؛ وفيها تأكيد لمكانة المرأة في الأمة والأسرة، يخالف ما عليه المتزمتون. في شأن المرأة. من زعمهم اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفيها تشريع عبادة وأداؤها؛ وفيها تعليم سياسي من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته؛ وفيها مواقف للمنافقين يفضحها الوحي فيبينها الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وفيهـا قـرآن ينزل في أثنائها، وبعدها، يتحدث عما سبقها وعمـا سيلحقها، ويبشر المؤمنين بالنصر والفتح بعد الفتح[67].

 

رابط مباشر لتحميل الدراسة بي دي إف

 

رابط مباشر لتحميل كتاب «في ظلال السيرة الحديبية»

 


* دراسة مقدمة إلى المؤتمر السابع عشر لمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي، عمَّان – المملكة الأردنية الهاشمية (المحرم 1438هـ = أكتوبر 2016م).

[1] الموسوعة العربية العالمية، الرياض 1419= 1999، الطبعة الثانية، المجلد 27 ص395.

[2] فيوميات صلاح الدين الأيوبي (سيرته) دوّنها المؤرخ الفقيه القاضي أبو المحاسن يوسف بن رابع بن تميم بن شداد الأسدي وهي منشورة تحت عنوان: «النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية»، مكتبة الخانجي بالقاهرة 1994 (الطبعة الثانية).

[3] أحمد زكريا الشلق، ما التاريخ وكيف نفسره، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2015 ص14.

[4] أبو البقاء الكفوي، الكليات، تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1998، ص: 981 و983، الراغب الأصفهاني.

[5] مفردات ألفاظ القرآن الكريم، تحقيق صفوان عدنان داوي، دار القلم، دمشق، الطبعة الثالثة، ص 948؛ عبد العزيز الدوري، بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب، المطبعة الكاثوليكية بيروت 1960 ص 17.

[6] رواه مسلم عن أبي هريرة، رقم (1378)، ط بيت الأفكار الدولية، عمان 1998.

[7] محمد بن يوسف الصالحي الشامي، سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد، ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1992، جـ 5، ص55.

[8] هي ميقات أهل مصر والشام إن لم يمروا بالمدينة المنورة.

[9] محمد سليم العوا، في ظلال السيرة (الحديبية)، مكتبة وهبة، القاهرة، 2007، ص32.

[10] الجزور الجمل الصغير، وهي كناية عن قلة عددهم فأكلة الجزور لا يزيدون عن عشرة أنفس.

[11] انظر العوا، السابق، ص 32-33؛ والصالحي السابق، ص 57.

[12] ميكال يسع سنة عشر رطلاً أو ثلاثة أصواع.

[13] متفق عليه من حديث كعب بن عجرة، البخاري (1814)، مسلم (1201).

[14] العوَّا، السابق، ص 58- 59.

[15] موضع قريب من الحديبية.

[16] الصالحي، السابق، ص61.

[17] رواه أحمد من حديث المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، الحديث رقم (19117).

[18] العوَّا، السابق، ص36-37.

[19] العوَّا، السابق، ص 60-61.

[20] الثنية واحدة الثنايا من السن وعقبة الطريق وبخاصة في الجبل.

[21] مجمع الزوائد، للهيثمي، تحقيق عبد الله محمد درويش، دار الفكر، بيروت (د.ت) الحديث رقم 10177، وهو من رواية أبي سعيد الخدري، وقد نسبه الهيثمي إلى البزار؛ وهو برقم 10234 في طبعة دار المنهاج، جدة، 1436هـ= 2015م تحقيق حسين سليم أسد الداراني؛ قال الهيثمي: رجاله ثقات.

[22] العوّا، السابق، ص39.

[23] الخلأ للإبل كالحران للدواب وهو أن يرفض الحيوان الحركة حيث يوجهه صاحبه أو راكبه.

[24] من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم السابق تخريجه.

[25] العوَّا، السابق، ص38.

[26] من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم السابق تخريجه.

[27] العوّا، السابق، ص 66-67.

[28] من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم السابق تخريجه.

[29] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ط رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ج5 ص339.

[30] الصالحي، السابق، ص72.

[31] العوا، السابق، ص68-69.

[32] انظر الصالحي، السابق، ص 73.

[33] غطاء للرأس يخفي الوجه يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

[34] الصالحي، السابق، ص 73.

[35] الصالحي السابق ص74-75.

[36] العوا، السابق، ص 70؛ والصالحي السابق ص 74-75.

[37] الصالحي، السابق، ص77.

[38] العوا، السابق، ص74.

[39] فتح الباري، كتاب الشروط، ج5 ص329.

[40] انظر: الصالحي، السابق، ص77-78.

[41] العوا، السابق، ص 73.

[42] الصالحي، السابق، ص78.

[43] كنز العمال رقم 1535؛ والصالحي، السابق، ص 83.

[44] حديث جابر بن عبد الله، الترمزي رقم 3860، وأحمد 14837، وأبي داود 4653؛ وهو في مسلم بلفظ مختلف 2496.

[45] انظر العوا، السابق، ص87-88.

[46] كنز العمال، الحديث رقم 36194.

[47] هكذا قال ابن عمر فيما رواه ابن اسحق.

[48] الصالحي، السابق، ص85.

[49] كنز العمال، من مراسيل عروة، الحديث رقم 30152، ولم يذكره صديقنا الدكتور مصطفى الأعظمي فيما جمعه من رواية أبي الأسود عن عروة لمغازي رسول اللهصلى الله عليه وسلم، ط مكتب التربية العربي لدول الخليج بالرياض، 1981.

[50] من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، سبق تخريجه.

[51] العوا، السابق، ص 97-98؛ الصالحي السابق، ص 87.

[52] القضية هنا هي اتفاقهم على الصلح.

[53] سبق تخريجه.

[54] رواه مسلم عن أنس، رقم 1783؛ ومحمد بن يوسف الصالحي الشامي، السابق، 89.

[55] رواه أحمد من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، رقم 19117.

[56] فتح الباري، ج5، ص343.

[57] الصالحي، السابق، ص 92.

[58] من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، سبق تخريجه.

[59] رواه الحاكم في المستدرك عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبيه، وقال عنه حديث صحيح الإسناد لم يخرجاه، ووافقه الذهبي، (حديث رقم 4287)، من طبعة دار الفكر، بيروت 2002.

[60] الراح جمع راحة وهي كفُ اليد، والمعني: بغير قتال.

[61] تفسير القرطبي، جـ 16 ص 260؛ والصالحي، السابق، ص 96 وهو ينسبه إلى البيهقي من رواية عروة.

[62] رواه أحمد في المسند عن مُجَمَّع بن جارية الأنصاري، رقم 15549؛ وذكره الصالحي، السابق، ص 97، ورواية أن القائل هو عمر بن الخطاب في: النويري، نهاية الأرب، ط دار الكتب المصرية، جـ 17، ص 235.

[63] القرطبي، جـ 16، ص 262؛ والحديث في سنن الترمذي عن أنس برقم 3263 وقال فيه الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

[64] رواه البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه، رقم 4177 و5012.

[65] رواه الترمذي عن أنس بن مالك، رقم 3263.

[66] نقل ذلك ابن حجر في فتح الباري، ج 7 ص 441.

[67] في كتابنا عن الحديبية، الذي أشرنا إليه مرات عدة في هذه اليوميات، تفصيلات كثيرة عن الموضوع لمن أراد التوسع فيه.

Rate this item
(0 votes)
Last modified on السبت, 08 آذار/مارس 2025 09:48

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.