التراث السياسي الإسلامي وحقوق الإنسان*

By د. مدحت ماهر الليثي** تشرين1/أكتوير 26, 2024 529 0

يتناول بحث "التراث السياسي الإسلامي وحقوق الإنسان" للدكتور مدحت ماهر واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في الفكر الإسلامي المعاصر، حيث يحاول تقديم إجابة عن سؤال شائك ومتشعب: ما عناصر رؤية التراث السياسي الإسلامي لحقوق الإنسان؟ وكيف يمكن مقارنتها بالتناول الحديث لهذه الحقوق؟

يتسم البحث بصعوبة المصادر وتنوعها، حيث إن التراث السياسي الإسلامي غني ومتعدد الأبعاد، كما أن قضية حقوق الإنسان في العصر الحديث معقدة ومركبة، ما يجعل المقارنة بينهما تتطلب تعمقًا وتفكيكًا دقيقًا.

وقد استهل د. مدحت ماهر بحثه بالإشارة إلى تلك الطبيعة المتشابكة والمعقدة للتراث السياسي الإسلامي، معتبرًا أن هذا التراث يتضمن كمًا هائلًا من المؤلفات والمفاهيم التي تراكمت على مر العصور، ما يجعل من الصعب أحيانًا تحديد رؤية موحدة أو واضحة بشأن موضوع محدد مثل حقوق الإنسان. ومن ناحية أخرى، يعترف الكاتب بتعقيد قضية حقوق الإنسان في العصر الحديث، حيث يختلف تناولها بناءً على السياقات الفكرية والعملية، ومستويات التحليل التي تتراوح بين البعد الفلسفي النظري والبعد القانوني أو العملي المرتبط بالتطبيق في الواقع المعاصر.

 

نقد الرؤية التراثية لحقوق الإنسان:

يبدأ الباحث بتناول بعض الآراء التي تشكك في وجود مفهوم "حقوق الإنسان" في التراث الإسلامي. فالبعض، من إسلاميين وعلمانيين على حد سواء، يرون أن مفهوم حقوق الإنسان بصيغته الحديثة لا يوجد في التراث الإسلامي، إذ لم يكن الإنسان في الرؤية الدينية الإسلامية مركزًا للعالم كما هو الحال في النظريات الحديثة، التي تجعل من الإنسان قيمة محورية.

يركز النقد العلماني والغربي على نقاط رئيسية، منها: غياب حريات التفكير والتعبير والاعتقاد، التمييز بين المسلمين وغير المسلمين، وعدم الاعتراف بمفاهيم حديثة مثل المواطنة والمساواة بغض النظر عن الدين أو الجنس أو اللون. يضاف إلى ذلك، أن التراث السياسي الإسلامي تعرض لانتقادات تتعلق بتكريس التمييز الديني عبر نظام أهل الذمة، وتبرير الانقلابات والاستيلاء على السلطة بوسائل غير قانونية، مع التركيز على مفاهيم الطاعة المطلقة للحاكم.

 

الرد على الانتقادات:

على الرغم من وجود بعض الصدقية في هذه الانتقادات، إلا أن الباحث يرى أن هناك مشكلة أساسية في هذه الرؤية السلبية، فالكثير مما يُنقد في التراث السياسي الإسلامي له جذوره في النصوص الشرعية الإسلامية، بما في ذلك بعض الأحاديث النبوية التي تعتبر مرجعية مهمة في الفكر الإسلامي. إلا أن البعض يحاول تجاوز هذه الانتقادات إما عبر إنكار بعض النصوص أو عبر رد السنة بشكل كامل.

وفي مواجهة هذه الانتقادات، يشير د. مدحت ماهر إلى ضرورة إعادة النظر في طريقة التعامل مع التراث السياسي الإسلامي. فهو يرى أن هناك عمليات تشويه وتعميم سلبية حدثت في النخب الأكاديمية والثقافية، التي رسخت في أذهان الأجيال الناشئة أن هذا التراث لم يكن سوى عقبة أمام التطور والاعتراف بحقوق الإنسان. وهذا التصور قد تعزز بفعل الإنتاج الفكري الأكاديمي والإعلامي خلال القرن الماضي.

 

رؤية بديلة للتراث:

على النقيض من هذه الرؤية السلبية، يقدم الباحث رؤية أخرى ترى في التراث السياسي الإسلامي مصدرًا لإقرار حقوق الإنسان، بل يعتبر أن الإسلام نفسه هو الذي يمنح الإنسان حقوقه الأساسية. وهذه الرؤية تستند إلى المفاهيم الإسلامية التي تكرس للعدالة الاجتماعية، والمعاملة الحسنة للجميع بغض النظر عن الدين أو العرق، وتُقدِم أمثلة على تسامح الإسلام في التعامل مع غير المسلمين في فترات معينة من التاريخ.

كما يرى الباحث ماهر أن التراث الإسلامي يحتوي على مبادئ يمكن أن تكون منطلقًا للتعامل مع حقوق الإنسان، سواء كان ذلك في التعامل مع المرأة، أم مع الفئات المستضعفة، أو مع الأقليات الدينية. وعلى الرغم من أن بعض الفترات في التاريخ الإسلامي شهدت انتهاكات، إلا أن هذه التجاوزات لا تلغي وجود أصول قوية في الفقه والسياسة الإسلامية تدعم العدالة والمساواة.

 

موقف البحث من التراث:

يؤكد البحث أن قراءة التراث السياسي الإسلامي لا يمكن أن تقتصر على النصوص الدينية، بل يجب أن تشمل أيضًا ممارسات المسلمين الأوائل وتجاربهم السياسية. ويتبنى الباحث موقفًا نقديًا من بعض المدارس الفكرية، خاصة تلك التي تعتمد على قراءة الممارسات العملية بمعزل عن النصوص، مثل المدارس الاستشراقية. ويشير إلى أن التراث الإسلامي يشمل موروثًا فكريًا ضخمًا يعبر عن رؤية متكاملة للحكم والسياسة، تستند إلى المرجعية الإسلامية.

 

السياسة في التراث الإسلامي:

واحدة من أهم القضايا التي يناقشها البحث هي مفهوم "السياسة" في التراث الإسلامي، حيث يشير الباحث إلى أن السياسة في التراث الإسلامي تختلف عن نظيرتها في الفكر الغربي المعاصر، فبينما ترتبط السياسة في الفكر الغربي بالوظائف الحكومية والإدارة العامة، فإنها في الفكر الإسلامي تُعتبر جزءًا من الدين نفسه، حيث تتعلق بإقامة العدالة وتحقيق الصلاح العام. فالسياسة ليست مجرد وسيلة لتحقيق الأهداف الدنيوية، بل هي عمل ديني يُقصد به التقرب إلى الله، وهو ما يعكس طبيعة الترابط الوثيق بين الدين والسياسة في الفكر الإسلامي.

 

حقوق الإنسان في التراث السياسي الإسلامي:

بالعودة إلى السؤال الأساسي الذي يطرحه البحث: هل هناك حقوق إنسانية في التراث السياسي الإسلامي؟ وكيف نقرأها في ضوء المقارنة مع الرؤية المعاصرة؟ يجيب الباحث بأن التراث الإسلامي يحتوي على مبادئ وتوجيهات تتعلق بحقوق الإنسان، لكن هذه الحقوق تختلف في تعريفها وتصورها عن الحقوق الحديثة. فحقوق الإنسان في الإسلام ترتبط بالالتزام بالأوامر الإلهية والواجبات تجاه الله والمجتمع. ومن ثم، فإن حقوق الإنسان في التراث الإسلامي لا يمكن أن تُفصل عن الدين، بل هي جزء من النظام الديني والأخلاقي الذي يحكم حياة المسلمين.

 

مقارنة مع الرؤية الغربية:

عند المقارنة مع الرؤية الغربية لحقوق الإنسان، لاحظ الباحث وجود اختلافات كبيرة في التصور والمنهج. ففي الرؤية الغربية، تُعتبر حقوق الإنسان حقوقًا طبيعية وغير قابلة للتصرف، مستمدة من الكرامة الإنسانية ذاتها. بينما في الرؤية الإسلامية، تتحدد حقوق الإنسان بناءً على التزامات الإنسان تجاه خالقه وتجاه المجتمع، ما يجعلها متداخلة مع الواجبات الدينية.

واجمالًا؛ يتناول البحث بأسلوب نقدي مسألة حقوق الإنسان في التراث السياسي الإسلامي، ويضعها في سياق المقارنة مع الرؤية الغربية الحديثة. ويخلص إلى أن التراث الإسلامي يحتوي على مبادئ هامة يمكن الاستفادة منها في تطوير رؤية شاملة لحقوق الإنسان، لكن يجب فهم هذه المبادئ في إطار المرجعية الإسلامية التي تشكل أساس الفكر السياسي في الإسلام.

 

نتائج الدراسة:

أجمل الباحث في ختام بحثه نتائجه على النحو التالي:

- بيننا وبين التراث السياسي الإسلامي العديد من المشكلات والعقبات، منها قلة المطالعة المباشرة لنصوصه وهذه لها عوامل عدة، ثم الرؤى المسبقة التي باتت تحكم المسافة بيننا وبين هذا التراث. وفيما يتعلق بحقوق الإنسان في هذا التراث فإن الشبهات والمطاعن ومن ثم الردود والمدافعات أكثر بكثير من الدراسات المباشرة للنصوص الدراسات المعتبرة للأصول المرجعية والسياقات الموضوعية، التي تستكشف الحقائق وتقارنها بين الرؤية التراثية وما عداها؛ الأمر الذي حاولت هذه الدراسة أن تقوم به.

- إن الإعلان العالمي الحقوق الإنسان لم ينشأ من فراغ، إنما في بيئة فكرية سقته من معين فلسفتها ومنحت مفاهيمه الأساسية -من الإنسان والحق والمساواة والحرية وما إليها- دلالتها الخاصة والمتميزة؛ والتي تشكك الدراسة في عالميتها وإن تواصلت عمليات عولمتها لما يقارب القرن قبل إصدار الإعلان، وفي الفترة التالية عليه. كما أن الإعلان نشأ في لحظة تاريخية معينة لها محدداتها من التأثر بما جرته النظم الشمولية النازية والفاشية من ويلات على البشرية ومن ثم اتسمت مفاهيم الإعلان وقضاياه الرئيسة ورؤيته والمنطق الكامن في أحشائه بسمات: الليبرالية التي تقدم الفرد قبل كل شيء، والعلمانية المتجاهلة لما قبل الإنسان ولما قبل الدولة، وتوجيه الاعتبار الأكبر إلى الثنائية التضادية بين الفرد والسلطة، والمجتمع والدولة مع ترجيح كفة الشق الأول في الحقوق والمزايا؛ تأثرا بالسياقين الفكري والواقعي الذين برز فيهما الإعلان. ولا شك أن ثمة تطورا قد طرأ على الخطاب الحقوقي عبر السنوات التالية لصدور الإعلان وإن كانت طفيفة ولا تتعرض الجوهر فلسفته، وقد تجلت هذه التطورات في العهدين الدوليين في أواسط الستينيات من القرن المنصرم؛ حيث ظهر فيهما- بفعل الحرب الباردة بعد اجتماعي وجماعي وإن لم يصل إلى موازنة المسألة. لكن الكثير من مفردات الإعلان التي تم إفرادها بوثائق خاصة -من مثل حقوق المرأة- قد شهدت -بفعل الحركات الأنثوية- غلوا وابتعادا يفوق بكثير ما كان عليه الإعلان.

- بانتقال المجهر إلى ساحتنا العربية والإسلامية، نجد أن العلمانيين والمتغربين كانوا أسبق إلى تلقي رؤية الإعلان وفلسفته وتبنيها، وإنشاء خطاب حقوقي علماني كانت أهم سماته هو التوجه به لانتقاد الخبرة الإسلامية الفكرية والتاريخية من منطلق مفاهيم الإعلان وقضاياه الأمر الذي وصل ببعضهم إلى توجيه الانتقاد لبعض ما جاء في الشرعة الإسلامية ونصوصها نفسها، في مثل قضايا الردة والحدود العقابية والتمييز في شهادة المرأة وميراثها وما إليه. ومن ناحية أخرى تعددت أوجه تلقي أرباب المرجعية الإسلامية للإعلان والخطاب الحقوقي الذي اتصل بالإعلان سواء من الداخل أم من الخارج، وغلبت سمة المقارنة والمقاربة على الكثير من التعاطيات مع هذا الإعلان: دفعا لشبهات المشتبهين عن الدين والتراث، ثم من باب المشاركة في إبراز الرؤية الإسلامية لتكوينات الدولة المنشودة وما تتسم به من انفتاحية وتعددية ومراعاة للفرد والأقليات والمرأة وسيادة القانون -الذي هو الشريعة- على الحاكم قبل المحكوم.

- ومن ثم تحدد سؤال الورقة في استكشاف رؤية التراث السياسي الإسلامي لهذه القضية الحقوقية كما يصورها الإعلان والخطاب المنبثق عنه، وذلك من خلال استنطاق نصوصه التي استقيناها من مداخل أو مجالات أربعة (هي المدخل الفلسفي والفقهي والأخلاقي والعمراني) واقتصرنا فيها على التراث الفكري باعتباره نصوصا تكافئ نص الإعلان ونصوص الخطاب الحقوقي مع مراعاة السياقات. وتعرضنا فيها للمستويين المتعلقين بالمفاهيم الأساسية، والقضايا الحقوقية. وقد كشفت الدراسة عن أن مساحة الاختلاف مع فلسفة الإعلان ليست بالهينة، فالإنسان والحق المتعلق به في التراث السياسي الإسلامي ليس علمانيا ولا يمكنه أن يكون كذلك حال؛ إذ الدينية خصيصة مركوزة في جوهر التراث ومنتشرة في حناياه. تم إن الإنسان في الرؤية التراثية مركب من جواني وبراني غير منفصلين، وينبغي مراعاة كل من العنصرين في العلاقات السياسية والثقافة التي توجه كلا من الحاكم والمحكوم على حد سواء، وأن الخطاب الحقوقي -إذا أراد الاستفادة والتطوير- لابد أن تجتمع فيه (إلى جانب فلسفة التشريع ثم الفقه التشريعي نفسه بمرجعيته المتجاوزة للنسبية الوضعية)، تجتمع فيه الأبعاد المعرفية (التصورية العقدية)، والغائية المقاصدية، والقيمية الأخلاقية، والوجدانية المعنوية، والسننية العمرانية، بما يشكل منظومة متكاملة تحق الحق وتبطل الباطل وتراعي كلتا كفتي ميزان العلاقة. ولم يكن هذا ليعني انتفاء التلاقي بين الرؤية التراثية للحقوق الإنسانية والخطاب الحقوقي المعاصر.

 

_________________

* قدم هذا البحث ضمن أعمال مؤتمر "ستون عاما على الإعلان العالمي حقوق الإنسان"، المنعقد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية

جامعة القاهرة، تحت رعاية مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات، ومنتدى القانون الدولي، ونشرته مجلة "المسلم المعاصر"، في عددها رقم (33)، السنة (130)، ص101-205.

** مدير مركز الحضارة للدراسات والبحوث، دكتوراه في العلاقات الدولية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.

 

لتحميل ملف البحث

 

Rate this item
(0 votes)
Last modified on السبت, 08 آذار/مارس 2025 09:51

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.