أخلاق الاستبداد وأخلاق.. الحرية*

By أ. د. أحمد كمال أبو المجد أيلول/سبتمبر 29, 2024 764 0

 

من الثابت الآن عند المؤرخين، وعند علماء النفس والاجتماع، أن سلوك الناس، وأخلاقهم مع أنفسهم ومع الناس، ليست أبنية ذاتية خالصة يصنعها الفرد لنفسه بعيدًا عن المجتمع .. وإنما هي - شأنها شأن كل ما يتعلق بالإنسان - نتاج تصنعه أوضاع المجتمع من ناحية ... وأداة تؤثر في المجتمع وتساهم في تغييره من ناحية أخرى..

وقد انتبه كثير من المؤرخين إلى تأثير الأوضاع الاقتصادية على الأخلاق.. وبينوا ما يطرأ على سلوك الناس من تغييرات تصاحب ما يصيبهم أفرادًا وجماعات من شدة وعسر، أو رخاء ويسر .. حتى إن عالمًا عربيًا هو أحمد بن علي الدلجي (من رجال القرن الخامس عشر) ألف كتابًا عن الفقر وآثاره والفقراء وأحوالهم سماه "الفلاكة والمفلوكون"، وحتى وجدنا في تراثنا أن "الفقر إذا ذهب إلى بلد قال له الكفر خذني معك"، كذلك سجل المؤرخون منذ زمن بعيد أثر الغنى والترف على السلوك وما يورثه من رخاوة في الطبع وبطر بالنعمة وأثرة وشح، ونهم لا يشبع واستخفاف بآلام المحرومين ... وفي القرآن الكريم تحليل دقيق متكرر لنماذج السلوك والأخلاق التي تميز طائفة "المترفين" لا تخرج كثيرًا عما نشاهده حولنا من نماذج "المترفين المعاصرين" .

ولكن الذي نعرضه اليوم ونتوقف عنده أن الأخلاق كما تتأثر بالأوضاع الاقتصادية وتؤثر فيها ... فإنها تتأثر كذلك - أعظم التأثر - بالأوضاع السياسية وتؤثر فيها.. ولا نريد هنا أن نتوقف طويلاً عند أثر الأخلاق الفردية للحكام والقادة على سياساتهم وعلى الأوضاع العامة لدولهم.. فذلك مقرر ومعروف وسجله التاريخي موثق ومحفوظ .. ابتداء مما كتبه مكيافيلي في كتابه "الأمير" ومرورًا بمؤامرات البلاط والحاشية في النظم الملكية في أوروبا خلال القرون الوسطى وما بعدها.. وانتهاء بفضيحة الووتر جيت في الولايات المتحدة..

 

الخير والشر متجاوران

وإنما نسجل - بكل العناية والاهتمام أن النظم الاستبدادية التي تقوم على القهر والقسر، والتي تستند في قيامها أو استمرارها على سلب الحريات ..وإهدار الحقوق .. وامتهان الكرامات.. وتسليط أجهزة الإعلام والتوجيه على العقول والنفوس إلى درجة حجب هذه الحقائق وتزييف الوقائع .. وغسل الأدمغة ..هذه النظم تترك بصمات ظاهرة على سلوك الناس، وتصيب" بنيتهم الأخلاقية" بعاهات حقيقية يكشف عنها التأمل في أنماط سلوك الناس تحت ظلالها القائمة..

ومن المؤسف في عالمنا العربي، أنه رغم الاهتمام الهائل من جانب المثقفين بالحديث عن الحرية ورفع شعاراتها، فإننا لا نكاد نعرف دراسة جادة مفصلة لهذه الظاهرة بعد الكتاب الذي تركه لنا الكواكبي عن "طبائع الاستبداد" ..

وعلى الجانب الآخر نسجل أن النظم التي تستند إلى الإرادة الحرة للإنسان، والتي تتغذى شجرتها على المشاركة الحقيقية للأفراد، والتي تورق وتزهر وتثمر بقدر ما يودعه فيها الأفراد من رحيق "الكلمة الحرة" الشجاعة، هذه النظم، تترك - هي الأخرى - بصماتها التي لا تخفي على أخلاق الناس وسلوكهم. ولطالما تساءل الباحثون وتساءلنا جميعًا فيما بيننا .. كيف يحدث هذا والناس هم الناس؟؟ اليس الأقرب إلى الحقيقة أن أخلاق الناس لا تتغير وأن الأفراد هم الذين يتفاوتون .. وأن نظم الاستبداد ونظم الحرية يستعين كل منها بمن يتناسب خلقه وسلوكه مع أوضاع النظام ومتطلباته.. فينحاز فريق من الناس إلى نظام الاستبداد ويغذيه بأخلاقه التي يحتاج إليها..

ويتغذى هو على ثماره الخبيثة ... متصدرًا المجالس والموائد.. معتليًا المنابر منتشرًا في الساحات. بينما ينزوي الأحرار الذين يضيقون بطبعهم بالاستبداد ويضيق بهم.. أليس هذا دليلاً على أن الأخلاق تنبع من ينابيع أخرى بعيدة عن السياسة ونظامها والحكم وأساليبه؟..

إن الجواب عن ذلك التساؤل هو حجر الزاوية من هذه الكلمات.. إن النفس الإنسانية، ذلك السر الأعظم أشبه بوعاء كبير، يتجاور فيه الخير والشر، وتتعايش فيه متناقضات النوازع والأخلاق... الأمانة والوفاء.. يجاوران الغدر والخيانة..

والشجاعة تجاور الجبن والرضا بالمذلة..

والرحمة الحانية تلاصق بأكتافها في نفس الإنسان القوة الضارية والعنف الدموي الذي لا يعرف الحدود..

التقوى - في كلمة واحدة - تجاور الفجور..

كل هذه الأخلاق المتناقضة تعيش بذورها الحية داخل نفس الإنسان.. وعلى باب هذه النفس صمام... فيه من العقل والإدراك نصيب ومن الإرادة والاختيار نصیب..

إذا رأيتم المداحين

وحين ينفتح تيار الحياة على نفس الإنسان ... تمتد في داخلها يد تستخرج من هذا الوعاء ما يناسب المقام... تكيفًا مع البيئة، وتلاؤمًا مع الظروف، وتعايشًا مع المتطلبات.. ومن بينها أنظمة الحكم وأوضاع السياسة..

فإذا كان النظام نظام قهر.. انكمش الصدق.. وانزوى الوفاء .. وتوارت الشجاعة ونكس العدل رأسه ..واستعدت الرحمة للرحيل.. وارتفعت هامات الكذب والخيانة... وتعالت أصوات النفاق والمداهنة... وغنت النفوس قصائد المدح الوثني الذي يمتهن إنسانية الإنسان... ويزري بالمادح والممدوح على سواء... والذي قال فيه النبي (ص): "إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب"..

وإذا طال زمان القهر .. ونسيت البراعم الناشئة من جيل الشباب طعم الحرية تحول النفاق إلى طبع مغروس، وعادة تمارس بلا تفكير.. وصار الدرهم والدينار قبلة الناس وكعبتهم .. فخرجوا - وهم لا يشعرون إلى وثنية حقيقية تتسلل إلى نفوسهم مع أنفاس كل يوم يعيشونه في ظلال الخوف والقهر ... حتى ينتهي بهم الأمر إلى عبادة فرد أو أفراد .. وإلى إسقاط كل القيم الموضوعية التي ترتبط بها في حياة الأحرار والمواقف والمشاعر والأفكار ... وهذا منتهى التدني وقاع الهبوط، وهو أول الشرك الذي يصفه النبي) ص) بأنه أشد خفاء في تسلله إلى النفوس "من دبيب الذر على الصفا (أي الحجر الأملس) في الليلة الظلماء".

إن النظم الاستبدادية تفرز فوق ذلك أخلاقًا عديدة تنبع من استغراق المشاعر كلها في التوجه إلى الحاكم الفرد، والتفاني في طاعته والحرص المطلق على رضاه.. وفي مقدمة هذه الأخلاق أمران لا يخلو منها نظام استبدادي.

أولهما ... ظاهرة المستبدين الصغار ... ذلك أن الاستبداد الذي يمارسه حاكم مطلق يترك أثره في نفوس خاصته وحاشيته والمحيطين به ... فيتحولون إلى ظلال له وأشباح تتحدث بلسانه، وترى بعينه، وتبطش بيده .. وقد يتجاوز بعض هؤلاء حدود ما يطلب منه ليفوز في سباق المنافسة الرخيصة على رضا المستبد الأكبر ... فإذا به يذيق عامة الناس من صنوف الإرهاب وصور القمع والإساءة ما لم يطلبه منه سيده اجتهادًا منه ومبالغة في الطاعة .. وإظهارًا للولاء...

 

ظاهرة الرؤية الواحدة

والظاهرة الثانية هي ظاهرة الرؤية الواحدة للأمور... وهي الرؤية التي يختارها المستبد، وينقلها عنه المستبدون الصغار .. ويرددها المنافقون والخالفون ليل نهار.. حتى تلون الحياة كلها بلون واحد وتفسر الظواهر كلها على النحو الذي يراء الحاكم الفرد.. فلا يتجاسر عالم ومفكر على أن يفكر بعقله هو، أو يرى بعينه هو أو يعلن موقفًا من الأمور العامة يخالف إجماع الخائفين المسبحين ليل نهار بذكاء المستبد وفطنته ونفاذ بصيرته إذ إن الجموع الخائفة من الناس ترى هذه الجسارة في مخالفة الحاكم في رأيه ورؤية مغامرة قد يصيبهم بلاؤها .. ومدخلاً لموجات جديدة من القهر والظلم لا قبل لهم بدفعها ..ولا صبر لهم على تحملها. والنتيجة الحتمية لذلك أن تشير الجماعة كلها على رأي حاكمها الفرد.. وأن يجمد الفكر ... ويقل الإبداع ... ويتعرض العمل العام كله للعثرات نتيجة غياب النقد الذي يوجه ويبصر ويثرى التجربة ... إن المجتمعات التي تعيش في ظل الرؤية الواحدة لحاكمها الفرد قد يصلح حالها زمنًا يطول أو يقصر…  ولكن عثراتها حين تقع عشرات مهلكة قاتلة .. ذلك أن تعدد الآراء يظل دائمًا أكبر الضمانات لترشيد حركة المجتمع وتأمينها ... ومن هنا فإن حماية الكلمة وضمان حرية الرأي يظلان في مقدمة الضمانات التي تحمي مسيرة الجماعة وأفرادها . وفي هذا الضوء نفهم حرص الإسلام وهو يدعو الناس إلى إبداء الرأي وإعلانه بقوله سبحانه "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" على أن يحمي حريتهم وأن يصون أمنهم بقوله سبحانه "ولا يضار كاتب ولا شهيد".

أما حين تكون الحرية هي القيمة العليا وتكون الشورى الصادقة هي النظام ...  وسيادة القانون هي مظهر الدولة ... فإن شياطين الأخلاق تولي هاربة مذعورة ... ويرتفع على الأخلاق الكامنة في النفس دعاء الخير المعروف "يا باغي الخير أقبل وبا باغي الشر أقصر" .. فتتسارع إلى ساحة النفس والمجتمع أخلاق الحرية في موكب مهیب … على رأسه الشجاعة والصدق ... ومن ورائها الأمانة والوفاء ... ومن حولهم جميعًا - يدًا بيد - الرحمة والعدل ... ويعود الفرد - كائنًا من كان – إنسانًا ... بشرًا سويًا .. لا قزم ولا عملاق. يستمع إليه إذا قال، وتحفظ عليه كرامته في كل حال ... ويعطي نصيبه المفروض من المشورة والعدل حين يكون محكومًا من الرعية ويوقر ويحب ويهاب ويعطي نصيبه المشروع من الوفاء والولاء والسمع والطاعة في المعروف .. حين يكون حاكمًا ومن الرعاة غير أن وعاء النفس ليس كأوعية الأطعمة والأشربة يؤمر فيطيع بلا تأخير ... وينادي فيستجيب بلا تفكير...

وإنما هو وعاء ذكي لا يستخرج شيئًا مما عنده إلا بحساب…  وبعد طول حذر واطمئنان … فإذا ارتفع القهر وزال الخوف لم يدفع إلى الصدارة بشيء من أخلاق الحرية حتى يستوثق ويطمئن ... فإذا اطمأن وبدأت أخلاق الحرية تجيب النداء، فإن أخلاق الخوف وطبائع الاستبداد التي استقرت في كيان المجتمع واتخذت لها في نسيجه أعشاشًا وأوكارًا تظل تقاوم متشبثة بالحياة ... فيرى الناس في أنفسهم وفي الناس من حولهم ما يحسبونه تناقضًا يحارون في تفسيره ... أنظمة ومؤسسات وتشريعات تؤكد الحرية وتعلن الأمن وتبشر بسيادة القانون ... وبقايا أخلاق القهر والخوف ... يموج بها المجتمع حتى لتكاد تسد الطريق على نظام الحرية وتفسد عليه أمره.

 

 

حرية الرأي أولاً

ويتساءل المصلحون عن المخرج من مثل هذا الموقف الذي يتكرر في بلادنا مع محاولات الإصلاح السياسي. والجواب - فيما نرى - لا لغز فيه ولا سر وراءه.

المخرج من هذا ... مزيد من الحرية والديمقراطية حتى تستوثق النفوس المترددة وتستيقن أن "مجيء الحرية" مجيء حقيقي وليس خداعًا ولا استدارجًا يعقبه قهر جديد.

ومطاردة - بلا هوادة - للبقايا الباقية من أخلاق الاستبداد يحمل لواءها أصحاب الكلمة وأصحاب القلم ... ويضرب المثل فيها أصحاب الحكم والسلطان.

وليت الساسة والمثقفين في بلادنا يعرفون أن الحرية ليست مجرد تنفيس وشعار ... ولكنها قبل ذلك ضمان حقيقي للرشد عند اتخاذ القرار ... وهي – بعد ذلك - ينبوع كبير من ينابيع الخلق السوي والسلوك المستقيم ... من أحياها فكأنما أحيا الفضائل جميعًا .. ومن قتلها فقد سد الأبواب في وجه تلك الفضائل..

إننا - لهذا - نؤمن بما ذهب إليه بعض علماء السياسة والقانون من أن حرية التعبير عن الرأي "تختلف عن سائر الحريات وأن لها بين تلك الحريات مكانًا مفضلاً أو ممتازًا Preferred Position  لأنها في حقيقة الأمر مفتاح السائر الفضائل، وضمان لبقية الحريات، وهذا المركز الممتاز ينبغي أن يكون له مظهر تعليمي وتربوي يشرح صفتها هذه ويثبتها في العقول والقلوب، كما ينبغي أن تكون له آثاره العملية والقانونية التي تقف في وجه كل تشريع أو قرار يهدد تلك الحرية أو يحول دون أدائها لوظائفها.

إن علماء السياسة والاجتماع في بلادنا العربية مدعوون إلى أن يغيروا منهج حديثهم عن الحرية ... فقد مل الناس الحديث في عموميات الحرية، كما ملوا التناول الرومانسي الذي يحولها إلى مجموعة الشعارات الغامضة .. وصارت الحاجة ماسة إلى دراسات أكثر تحديدًا وتفصيلاً تبين للحكام والمحكومين على السواء أن للحرية وظائف في حياة الناس .. كما تبين - على وجه التحديد - أمرين أثنين أولهما: ما تسميه فسيولوجيا الحرية، أو وظائفها المختلفة في حياة الأفراد والجماعات…  والثاني: ما نسميه "باثولوجيا الحرية" أو أمراضها ... وما يطرأ على أحوال الناس وأخلاقهم ومصالحهم من فساد وضرر إذا غابت الحرية وحل محلها القهر والاستبداد والحجر.

وبغير هذه الدراسات … ستنشأ أجبال تتحدث عن الحرية وتنادي بها دون أن تكون مقتنعة بفائدتها ... وأهمية الحفاظ عليها .. مع أن هذا الاقتناع هو - في نهاية المطاف - الضمان الحقيقي لها من وراء سائر الضمانات الدستورية والقانونية.

 


 [*] مقال نُشر بمجلة العربي، ع: 277، ديسمبر 1981م، ص13-16، https://2u.pw/QlUGZxOd

 

 

Rate this item
(0 votes)
Last modified on السبت, 08 آذار/مارس 2025 03:57

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.