ملامح حول الفقه الإسلامي ودوره في النظام القانوني المصري

By أ. د. محمد كمال مبروك* حزيران/يونيو 11, 2024 1773 0
  1. المقارنة القانونية الفقهية ضرورة واجبة، والقطيعة بين النظام القانوني والفقه الإسلامي لا يجب أن تستمر، لأن الفقه الإسلامي مكون أساسي بل هو المكون الأول في البناء القانوني دون مبالغة أو شطط.
  2. النظر للفقه الإسلامي كنظام قانوني يجب أن يتم في سياقه التاريخي؛ فالفقه الإسلامي في زمن التأسيس نظام قانوني يفوق أي نظام عرفه البشر، ولا يزال قابلا للأخذ منه بما يضارع ويفوق أعظم النظم القانونية، والدليل على ذلك أنه حتى وقت قريب كان صالحا –بأجنحته المختلفة- لإصلاح حياة الناس وسد حاجاتهم وكفاية وتغطية وتلبية متطلباتهم دنيا ودينا.
  3. من الأهمية بمكان دراسة الفقه الإسلامي والنظر إليه كمكون رئيس من مكونات النظام القانوني المصري الحالي، وأول ما يجب الالتفات إليه فكرة أن النظم القانونية لا تنشأ في الفراغ، وإنما تنمو كنمو الكائنات الحية وتتفاعل وتتطور، وعلى هذا فالنظام القانوني الحالي لم ينشأ فجأة، وإنما كان مسبوقا بنظام قانوني مستمد بتمامه من الفقه الإسلامي، وكان العمل جاريا في التعليم القانوني والتشريع والقضاء على وفق النظام القانوني الإسلامي؛ حتى ظهور الاحتلال الفرنسي والمحاكم المختلطة ثم المحاكم الأهلية فترة ( 1870) وما حولها، وعلى هذا فيجب دراسة الفقه الإسلامي وأثره على القوانين المختلفة كتاريخ تشريعي وتاريخ قانون أولا.
  4. ولا يخفى على المشتغلين بالقانون أن الدساتير المختلفة، وتعبيرا عن إرادة المواطنين؛ حرصت على إبراز دور الشريعة الإسلامية، وعلى كونها المصدر الرئيسي للتشريع، واعتبرت الدساتير المختلفة هذا المبدأ فوق الدستور؛ سواء تم النص عليه كما في الدساتير الحديثة أم لم يتم النص عليه، مع الإشارة بالطبع لتضمين الحديث عن مصدرية الشريعة الإسلامية للدستور المصري حق غير المسلمين في الاحتكام إلى شرائعهم في أحوالهم الشخصية وشؤونهم الدينية.
  5. ويبرز دور الشريعة في النظام القانوني المصري في مجال الأحوال الشخصية، ويقصد بها في القانون "مجموع ما يتميز به الإنسان عن غيره من الصفات الطبيعية أو العائلية التي رتب القانون عليها أثرًا قانونيًا في حياته الاجتماعية لكونه إنسانًا"، وعلى هذا تخضع جميع قوانين الأهلية والولاية والأسرة والزواج والطلاق وفرق الزواج والمواريث والوصية والوقف إلى أحكام الشريعة تماما، ولا يخفى ما تمثله هذه القوانين ونسبتها في البناء القانوني.
  6. وإذا كان القانون المدني وهو أبو القوانين ينص في المادة 1 فقرة 2 من القانون المدني على أن التشريع هو المصدر الرسمي الأول؛ والعرف هو المصدر الرسمي الثاني؛ ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الثالث؛ ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة المصدر الرسمي الرابع؛ فذلك يحتاج إلى تأمل لدور الشريعة الإسلامية البارز في البناء المكون لهذا القانون، فمن جهة المصدر الأول (التشريع)، نلاحظ أن القانون المدني المصري وأغلب القوانين العربية تتفق مع الشريعة في غالب مسائلها، ولا نبالغ إذا قلنا إن المخالفات الموجودة في القوانين المدنية طفيفة، ويمكن لو صدقت النوايا إكمال النقص الموجود بها، ففي القانون المدني المصري تتوافق النصوص مع الشريعة بنسبة 97% تقريبا؛ طبقا لدراسة الدكتور محمد طاجن المهمة بعنوان (مصدرية الشريعة الإسلامية في القانون المدني المصري)، وفيها حصر للأمور التي يمكن معالجتها لتحصيل الاتفاق التام بين القانون والفقه الإسلامي دون تعسف ولا تكلف، ومنها: إجازة الفائدة البسيطة للتعويض أو بسبب تأخير الالتزام، وإجازة الرهان أو المقامرة (الرهان في الألعاب الرياضية- واليانصيب)، وكذا الوصية للوارث بالثلث دون إجازة الورثة.
    • وإذا كان القانون قد نص على أن العرف هو المصدر الرسمي الثاني للقانون المدني، فمن البديهي الالتفات إلى مكونات العرف في المجتمع المصري، فهو أولا عرف متكون في مجتمع إسلامي، ثم هو – العرف- من مصادر التشريع الإسلامي أصلا، بشروط بيَّنها الفقهاء، فالقول بمصدرية العرف قول بمصدرية الشريعة من وجه.
    • ثم جاء النص صراحة على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الثالث في القانون المدني المصري؛ تليها مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة. وهما معا لا يخالفان أصول الشريعة ولا مقاصدها الحاكمة؛ بل يمكن القول بضمير مطمئن أنهما معا مما تتغياه الشريعة الإسلامية في مقصدها الأهم (العدل).
  7. المذاهب الفقهية هي في الحقيقة مدارس اجتهادية، فإذا كانت الشريعة المطهرة تشتمل على ما أمر الله تعالى به الناس وشرعه لهم من أمور الدين والدنيا؛ من العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق؛ فإن الفقه هو اجتهاد العلماء في فهم هذه الشريعة، وهو اجتهاد غير معصوم في جزئياته، لكنه بمجموعه يمثل تجربة ثرية عظيمة، بعضها مما اتفق عليه المسلمون يمثل المعلوم بالضرورة وهو ما تم القطع بمعناه ولم يختلف فيه المجتهدون، وبعض هذا الفقه –وهو الأغلب- ما هو محل الاجتهاد، وذلك فيما تختلف الأفهام فيه، وكلا الأمرين: التقليد والاجتهاد مقصود وضروري في الشريعة كما يقول العلامة السنهوري، فالاجتهاد ضمانة لمرونة الشريعة ومواكبتها للتطورات والمستجدات، بينما التقليد يحافظ على الثبات وضمان وحدة الدين وبقائه نقيا بنقاء أصوله ومقاصده الكلية.
  8. الفقه الإسلامي إنتاج علمي مشرف لهذه الأمة، وهو من أهم خصائصها، ومن أسباب نهضة الأمة في فترات النهوض نظامها القانوني المبني على الفقه، وكذا لما تأخر هذا النظام أثر على واقع الأمة، وبشهادة عتاة العلمانية: "بنفس المعنى الذي ينطبق على الحضارة اليونانية حينما نقول عنها أنها حضارة فلسفة، وعلى الحضارة الأوروبية المعاصرة حينما نصفها بأنها حضارة علم وتقنية... إذا جاز لنا أن نسمي الحضارة الإسلامية بإحدى منتجاتها فإنه سيكون علينا أن نقول عنها إنها حضارة فقه .. فالفقه كان (أعدل الأشياء قِسمة بين الناس) في المجتمع العربي الإسلامي؛ ولذلك كان لا بد أن يتركَ أثرَه قويًّا فيه، ليس فقط في السلوك العملي للفرد والجماعة - الشيء الذي يستهدفه أساسًا - بل في السلوك العقلي أيضًا؛ أي: في طريقة التفكير والإنتاج الفكري". كما يقول محمد عابد الجابري في "تكوين العقل العربي".
  9. جعل الإسلام العقائد والغيبيات مبنية على الوحي الإلهي القاطع وليست محلا للاجتهاد، بينما العبادات جاء الإسلام منشئا لها، ولذلك فالأصل فيها المنع والتوقيف لا الابتكار، في حين أن الإسلام في مجال المعاملات والعادات جاء مصلحا لا منشئا؛ فلا زال الناس يتبايعون ويتزوجون ويتعاملون قبل الإسلام وبعده، ولم يخترع الإسلام هذه المعاملات، وإنما جاء ليتمم التجربة البشرية المثلى بالإجابة النموذجية، (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)، فالأصل فيها بخلاف العبادات: الابتكار والاختراع وسعة قبول الفعل الإنساني والحكمة أنى وجدت.
  10. النظم القانونية الحديثة بنيت على أصول؛ فالنظام اللاتيني مؤسس على النص القانوني تشريعا وقضاء؛ بينما يتجه النظام الأنجلوسكسوني للأخذ بنظام السوابق القضائية وتوسيع دور الاجتهاد القضائي، وكذا يجوز القول إن الفقه الإسلامي بني كنظام قانوني متفرد على النص، مع تقسيم بديع لقطعي الدلالة وظنيها، وكذا قطعي الثبوت وظني الثبوت، ويقابل الحكم القانوني على أفعال المواطنين بكونها مشروعة أو غير مشروعة ( جناية أو جنحة أو مخالفة) يقابل ذلك في النظام الفقهي الإسلامي تقسيم الأحكام الشرعية لـ (واجب ومستحب وجائز ومكروه وحرام)، ويتفرد النظام القانوني الإسلامي بوضع ثواب ومكافأة أخروية على الفعل أو الترك؛ وذلك من خصائصه كونه رباني المصدر، مع عدم إهمال العقوبة والجزاء كالنظم القانونية الوضعية.
  11. ومن سعة الشريعة وعظمتها أن جعلت دائرة الأحكام الشرعية التي تغطي حياة المكلفين وتشتمل على الأحكام الخمسة السابقة؛ جعلت أكبر نسبة في هذه الأحكام للجائز أو المباح، وهو ما يسمى بمنطقة العفو، ويسميها بعض الشيعة –خطأ– بالفراغ التشريعي، وهي تسمية تتجاوز النص الوارد: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها)، فأكبر نسبة للأحكام في الشريعة ليست للحرام ولا للواجب؛ وإنما للفعل والاجتهاد الإنساني الجائز والمباح في حدود مقاصد وكليات الشريعة المطهرة.
  12. كما يتفرد النظام القانوني الإسلامي بوجود (الفتوى) وهو نظام يشبه القضاء في كونه إخبارا عن الحكم الشرعي لكنه غير ملزم بخلاف القضاء، وهو يشبه التحكيم من هذه الجهة لكنه – نظام الفتوى - قد يكون فرديا وقد تتعدد أطرافه، وفي كل هو غير ملزم إلا من جهة الديانة.
  13. كما لفت النظر لقيمة العدل كمقصد أصلي للشريعة، فهو سمة الشريعة الأساسية بتعبير الإمام (محمد أبو زهرة)، وهو المقصد الأهم والأساس بتعبير الدكتور محمد أحمد سراج، وقد تم مراعاة هذا المقصد في البناء الفقهي الإسلامي، عن طريق التنظير والتطبيق؛ في التشريع والفتوى والقضاء
  14. الحرص على موافقة التشريعات القانونية للشريعة هو تطبيق لنظرية سيادة الأمة وكونها مصدرا للسلطات، وفيه إبطال لحجج المتطرفين ودرء لفسادها، ولا يكتفى في التشريعات بعدم مخالفة مقاصد الشريعة والقيم العليا فيها؛ وإن كان هذا مقبول مرحليا؛ وإنما ينبغي العمل على جعل التشريعات موافقة للشريعة متحرية لمقاصدها ومُثُلِهَا.
  15. للعقل دوره المهم في الوصول للأحكام الشرعية، لكنه لا يستقل بالتشريع، فهو بتعبير القانونيين دليل كاشف للأحكام، وليس منشئا لها، والقول بأنه منتج للأحكام الشرعية يقابله سؤال مهم .. أي عقل وعقل الإنسان نفسه يتغير تبعا للبيئة والزمن والظروف المختلفة، ما بالنا بعقول شتى!
  16. السنة دليل مهم، وما ثبت صحته كالبخاري ومسلم لا يقلل من قيمته العلمية وجود نسبة نادرة ضمنه انتقدها العلماء، فهو أولا دليل نزاهة علمية، ثم هو نادر والنادر لا حكم له.

_________________
* قسم الشريعة الإسلامية- كلية الحقوق- جامعة القاهرة.

Rate this item
(0 votes)
Last modified on الثلاثاء, 11 حزيران/يونيو 2024 06:40

Leave a comment

Make sure you enter all the required information, indicated by an asterisk (*). HTML code is not allowed.