(الجزء الثاني)
السلطة التقديرية للمشرع- هل تخضع للرقابة الدستورية؟ متى تعدل المحكمة الدستورية عن قضاء سابق؟ وكيف؟
بقلم
د. أحمد كمال أبو المجد
أستاذ القانون العام– حقوق القاهرة
عرضنا في الجزء الأول من هذا البحث لبعض المبادئ الدستورية الحاكمة لدور المحكمة الدستورية العليا في رقابتها على القوانين، وللمناهج المختلفة التي يمكن أن تتبعها المحكمة في ممارستها لهذه الرقابة..
وكان الحديث عن هذه المناهج حلقة متوسطة بين عرض المبادئ القانونية الحاكمة وبين مناقشة السياسة القضائية للمحكمة، وهو ما نعرض لبعض جوانبه في هذا الجزء من البحث متناولين فيه بالإيجاز المناسب، أمرين من بين أمور ثلاثة كنا قد وعدنا بالتعرض لها:
الأمر الأول: مناقشة سياسة المحكمة في الرقابة على التشريعات الاجتماعية، رقابة تشارك بها، في تحديد معالم النظامين الاجتماعي والاقتصادي.
الأمر الثاني: بيان الوسائل الفنية التي تتمكن المحكمة عن طريقها من مراجعة بعض ما انتهت إليه في عدد من أحكامها السابقة.
أما الأمر الثالث: وهو مناقشة أهم الاقتراحات التي طرحها البعض بقصد تقييد سلطة المحكمة أو الانتقاص من قيمة الأحكام التي تصدرها في المسائل الدستورية فنرجو أن نعود لمناقشته في بحث خاص منفرد.
أولًا: تقييم دور المحكمة في الرقابة على السلطة التقديرية للمشرع في المجال الاجتماعي:
من المحددات الأساسية لدور المحكمة في الرقابة على دستورية التشريعات وعلاقتها في ممارسة هذا الدور بالسلطات العاملة وهي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية.. أن المحكمة قد لا تكون لها الدراية الكافية والخبرة اللازمة لاتخاذ القرارات التي تتصل بالعلاقات الاجتماعية والاقتصادية.. إذ الأصل أن هذه الخبرة وتلك الدراية تتوافران أساسًا للسلطات العاملة بحكم وظيفتهما الدستورية ومسئوليتهما المترتبة على ممارسة تلك الوظيفة.. وبحكم توافر البيانات والمعلومات الخاصة بالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية لديهما على نحو يغلب ألا يتوافر مثله للمحاكم. والنتيجة المنطقية التي تترتب على هذه الحقائق السابقة أن على المحكمة أن تمارس درجة أكبر من التحفظ والتزام مظاهر التقييد الذاتي حين يكون الأمر المعروض عليها في المنازعة الدستورية دائرًا حول إقرار أو رفض سياسة اجتماعية أو اقتصادية معينة تبنتها السلطة التشريعية. ولتوكيد هذا النظر السديد نضرب مثالين من الأحكام التي أصدرتها محكمتنا الدستورية العليا في منازعات تتعلق بقضايا اجتماعية يختلف النظر في شأنها على نحو لا تبدو معه حجة مقنعة لترجيح وجهة نظر المحكمة في شأنه على وجهة نظر السلطات العاملة المسئولة دستوريًا عن رسم السياسات الاجتماعية والاقتصادية.
والمثال الأول: هو الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا يوم 6 يناير سنة 1996 في الدعوى الدستورية رقم 5 لسنة 8 قضائية دستورية والمتعلق بمدى حق المطلقة الحاضنة في الاحتفاظ بمسكن الزوجية الذي كانت تقيم فيه قبل طلاقها.. والذي قضت فيه المحكمة بعدم دستورية المادة 18 مكرر من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985 استنادًا إلى أنه مخالف لمبادئ الشريعة الإسلامية التي نصت المادة الثانية من الدستور على اعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع.. ولن نتوقف في مناقشتنا لحكم المحكمة عند مسألة العلاقة وبين سائر نصوص الدستور.. إذ إن ما يعنينا هنا إنما هو منهج المحكمة في تناول “السياسية الاجتماعية التي تبناها المشرع” وحدود سلطتها في مخالفة تقدير المشرع والعدول عنه إلى سياسة اجتماعية أخرى تراها المحكمة أوفق وأولى بالاعتبار.
والنص الذي قضت المحكمة بمخالفته للدستور يلزم الزوج المطلق بأن “يهيئ لصغاره من مطلقته ولحاضنتهم المسكن المستقل المناسب، فإذا لم يفعل خلال فترة العدة استمروا في شغل مسكن الزوجية دون المطلق مدة الحضانة وإذا كان مسكن الزوجة غير مؤجر كان من حق الزوج المطلق أن يستقل به إذا هيأ لهم المسكن المستقل المناسب بعد انقضاء مدة العدة، ويخير القاضي الحاضنة بين الاستقلال بمسكن الزوجية وبين أن يقدر لها أجر مسكن مناسب للمحضونين…”.
وقد انتهت المحكمة إلى أن نص المادة 18 مكررًا “ثالثًا” مخالف للدستور فيما نص عليه وتضمنه من:
أولًا: إلزام المطلق بتهيئة مسكن مناسب لصغاره من مطلقته وحاضنتهم ولو كان لهم مال حاضر يكفي لسكناهم، أو كان لحاضنتهم مسكن تقيم فيه، مؤجرًا كان أو غير مؤجر.
ثانيًا: تقييده حق المطلق –إذا كان مسكن الزوجة مؤجرًا- بأن يكون إعداده مسكنًا مناسبًا لصغاره من مطلقته وحاضنتهم واقعًا خلال فترة زمنية لا يتعداها، نهايتها عدة مطلقته. وقد نتفق –من حيث الموضوع- على عدالة وحكمة الرأي الذي تبنته المحكمة في هذا الأمر الدقيق الذي تتنازع في شأنه أمامها مصلحة كل من الزوج المطلق، والزوجة الحاضنة، والأبناء.. ولكن الذي نتوقف عنده ان المحكمة قد قررت صراحة في حكمها أن “النفقة بمختلف صورها وفى مجمل أحكامها، وفيما خلا مبادئها الكلية، لا ينتظمها نص قطعي يكون فاصلًا في مسائلها” كما قررت أنه يسوغ “الاجتهاد في المسائل الاختلافية التي لا يجوز أن تكون أحكامها جامدة بما ينقض كمال الشريعة ومرونتها” وعادت فأكدت حق المشرع، ولى الأمر في ممارسة هذا الاجتهاد في المسائل الظنية أو ربطها بمصالح الناس عن طريق الأدلة الشرعية –النقلية منها والعقلية- حق لأهل الاجتهاد، فأولى أن يكون هذا الحق ثابتًا لولى الأمر يستعين عليه في كل مسألة بخصوصها وبما يناسبها، بأهل النظر في الشئون العامة”.
كما ردد الحكم معنى قريبًا من هذا المعنى بقوله إنه قد صار حقًا وواجبًا، “أن يتدخل المشرع ليرد ما قدره ظلمًا بيّنا، وأن يعيد تنظيم الحقوق بين أطرافها”. “ورتب الحكم على ذلك كله إقرار ما قدره المشرع، بالنص المطعون فيه من انتقال حق هؤلاء الصغار من نفقة يفرضها القاضي مبلغًا من النقود إلى عين محقق وجودها هي تلك التي كانوا يشغلونها مع أبويهم قبل طلاق أمهم” مقرًا أنه “لا منافاة في ذلك للشريعة الإسلامية سواء في مبادئها الكلية أو مقاصدها النهائية”.
رغم ما تقدم جميعه، عاد الحكم فأنكر على المشرع ما قررته المادة 18 مكررًا “ثالثًا” من إلزام المطلق بأن يوفر لصغاره من مطلقته، ولحاضنتهم مسكنًا ملائمًا وإلا استمروا من دونه شاغلين مسكن الزوجية، ولو كان لهؤلاء الصغار مال يكفيهم للإنفاق عليهم.. وبنى الحكم هذا الإنكار على مسلك المشرع بأنه “يكون بذلك مرهقًا ودون مقتضى –من يطلقون زوجاتهم ولو كان الطلاق لضرورة لها موردها شرعا مفضيًا إلى وقوعهم كارهين في الحرج، ليكون إعانتهم منافيًا للحق والعدل، ليقترن الطلاق بالبأساء والضراء التي لا مخرج منها”.
وكأنما استشعرت المحكمة أنها أحلت نفسها محل المشرع في التوفيق بين المصالح المتعارضة وترجيح بعضها على بعض، وأنها لم تعتمد ما هو مقرر في الفقه الإسلامي من أنه إذا اختار ولى الأمر رأيًا في المسائل الخلافية، فإنه يترجح “فذهبت إلى تقييده هذا الذي يقرره الفقهاء بأنه “مردود بأن الترجيح عند الخيار بين أمرين لا يكون إلا باتباع أيسرهما ما لم يكن إثمًا” فلا يشرع ولى الأمر حكما يضيق على الناس أو يرهقهم من أمرهم عسرًا، بل يتعين أن يكون بصيرًا لشئونهم بما يصلحها”. ومع اقتناعنا بأن اختيار المحكمة وترجيحها بين المصالح في خصوص المسألة المعروضة عليها قد كان اختيارًا موفقًا وأن له سنده من مبادئ الشريعة التي نص عليها الدستور في مادته الثانية. فلا يزال صحيحًا أن المحكمة بهذا الذي فعلته قد اختارت أن تقتحم ميدانًا شائكًا ودقيقًا وهو ميدان مراجعة السلطة التشريعية في تقديرها للمصالح وترجيح بعضها على بعض، وإيثار سياسة تشريعية تراها أوفق وأصلح وأقرب إلى مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها الكلية.. وإذا كانت المحكمة قد بنت اختيارها على أساس أن السياسة التي رجحتها من شأنها التيسير على الزوج المطلق، وان اختيارها يجد أساسه في الحديث الصحيح الذي ترويه عائشة رضى الله عنها من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- “ما خير بين أمرين إلى اختار أيسرهما”.
فقد يلاحظ على هذا الاستدلال أنه يشير إلى منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإفتاء والقضاء ولا يتضمن قاعدة تشريعية محددة. وإنما يبقى الخطاب موجهًا إلى المشرع أو ولى الأمر، فيما يضعه من نصوص، وما تتضمنه تلك النصوص من أحكام. كما أن الأمر في خصوص موضوع الدعوى لا يكفي في حسمه مبدأ القول بضرورة اتباع الأيسر، إذ نحن هنا أمام مصالح متعارضة لأفراد متساوين، الأب المطلق، والصغار، والمطلقة الحاضنة، فما يكون تيسيرًا لواحد من الثلاثة قد يكون تعسيرًا وإعناتا للآخرين.
ويبقى أن نص المادة الثانية من الدستور حين ألزم المشرع باحترام “مبادئ الشريعة” بدلًا من إلزامه بأحكام الشريعة، قد منح المحكمة الدستورية العليا سلطة أكثر اتساعًا، تستطيع في ظلها أن تقضى بعدم دستورية أي نص تشريعي إذا رأت فيه خروجًا على ما يقتضيه إعمال مبدأ من مبادئ الشريعة” ولو لم يتمثل هذا الخروج في مخالفة نص بعينه من نصوص الشريعة، قطعية لورود وقطيعة الدلالة وبهذا يقترب قضاء المحكمة اقترابًا كثيرًا من مراجعة ملاءمة التشريع.
كما يبقى أن نلاحظ أن “ولى الأمر” الذي يتوجه إليه الخطاب النبوي، يشمل في عصرنـا الحاضر سلطات الدولة المختلفة التي إليها أمر الجماعة، ولا تختص به -بالضرورة- واحدة من تلك السلطات دون سائرها، وأن المرجع في نهاية الأمر إلى ما حدده دستور الدولة وما رسمه من علاقة بين تلك السلطات.. وأن أولى تلك السلطات بمباشرة هذا التقدير للمصالح المتعارضة، هي السلطة التشريعية المنتخبة بحسبانها أدنى السلطات إلى التعبير عن التقدير الجماعي للمصالح المعتبرة، وكيفية التوفيق بينها أو ترجيح بعضها على بعض.
أما المثال الثاني:
الذي يكشف عن مدى تدخل المحكمة في وزن وتقدير الاعتبارات الاجتماعية التي تحيط ببعض التشريعات فتعبر عنه سلسلة من أحكامها التي تعرضت لضبط العلاقة بين المستأجرين والمؤجرين للأماكن السكنية، وهي علاقة بالغة التعقيد والدقة.. ويرجع ذلك إلى أمرين أحاط بمسلك المشرع المصري في ضبط هذه العلاقة.. فبعد قيام ثورة 1952 كان التوجه التشريعي العام هو [تجميد] السعر لحماية المستأجرين باعتبارهم “حينذاك الطرف الأضعف والأكثر حاجة لحماية المشرع، وذلك في مواجهة الملاك المؤجرين الذين افترض المشرع أنها الطرف الأقوى الذي يستبد عامة بالمستأجرين خصوصًا بعد ان استحكمت أزمة الإسكان.. وصار من يتهدد بفقد مسكنه بانتهاء مدة عقده أو بإنهائه من جانب، المالك والمؤجر، معرضًا لعنوة وعنت لا حدود لهما واستمر هذا التوجه التشريعي سنين طويلة، تغيرت خلالها أوضاع اقتصادية واجتماعية.
وتبينت خلالها كذلك حقائق كان بعضها قد غاب عن المشرع الذي أصدر عدة قوانين تنظيم هذه العلاقة، فقد تفتتت الطبقة التي كانت تسمى طبقة الملاك، وتراجعت قوتها الاقتصادية بما ترتب على القوانين المنظمة للعلاقة بين المؤجرين والمستأجرين من “تجميد” الأجرة المستحقة لهؤلاء الملاك، تجميدًا قلب العلاقة بينهم وبين المستأجرين رأسًا على عقب، كما أدى إلى ظهور مفارقات صارخة وغير مقبولة بين فئات مختلفة من الملاك، وأصبح بعض الأثرياء من المستأجرين لا يدفعون لبعض الفقراء من الملاك المؤجرين، إلا فتات لا يتناسب البتة مع قيمة العقارات المستأجرة، ولا يكاد يسد رمق أولئك الملاك الذين انتقلوا من فئة الموسرين إلى فئة المعسرين المحتاجين. وإذ استمر هذا الخلل سنين طويلة، فقد تصور الملاك المؤجرين أن وضعهم هذا أنشأ لهم في مواجهة المستأجرين وفى مواجهة المشرع حقوقًا مكتسبة لا يجوز المساس بها، لذلك صار من الصعب أن يتدخل المشرع ليتوجه بتشريعاته في اتجاه إعادة التوازن بين طرفي عقود الإيجار، ورد العلاقة الاجتماعية والقانونية بين أولئك الأطراف إلى ميزان الاعتداد الذي لا يظلم الناس فيه ولا يظلمون.
ولقد هم المشرع غير مرة بتدارك هذا الخلل، وكثر الحديث عن مشروعات لقوانين تعيد تنظيم العلاقة بين المؤجرين والمستأجرين، ولكن الضغوط السياسية والاجتماعية التي تعرض لها المشرع، قد حالت دون إتمام هذا الأمر الذي صار التراخي عنه سببا لمظالم عديدة ولخلل يوشك أن يهدد السلام الاجتماعي بين فئات الناس، وفى ذروة هذه الأزمة بدا للمحكمة الدستورية حين وصل الأمر إليها، أن تؤدى بسلسلة موصولة من أحكامها، جزءًا من الدور الذي تراخى التشريع عن أدائه. فأصدرت عدة أحكام كان لها أثرها المباشر على مجمل العلاقة بين المؤجرين والمستأجرين وحسبنا أن نشير إلى الأحكام التي قررت عدم دستورية نصوص عديدة كانت تسرف في حماية المستأجرين على نحو أوشك معه حقهم أن يتحول من حق شخصي مستمد من العقد إلى حق عيني شبيه بالملكية مستمد من نصوص القوانين.. كما أوشكت عقود الإيجار أن تتحول إلى عقود مؤبدة، لا يملك المؤجر إنهاءها واسترداد ما له من حق على العقار الذي يملكه قانونًا، ويستأثر به وبمنفعته المستأجرون فعلًا.
(أ) في مقدمة هذه الأحكام ما انتهت إليه المحكمة من عدم دستورية ما تضمنته المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر من استمرار عقد إيجار المسكن -عند ترك المستأجر الأصلي له- لصالح أقاربه بالمصاهرة حتى الدرجة الثالثة الذين أقاموا معه في العين المستأجرة مدة سنة على الأقل سابقة على تركه العين أو مدة شغله لها (القضية رقم 6 لسنة 9 قضائية دستورية- الحكم الصادر بجلسة 18 مارس 1995).
(ب) ومنها ما قضت به من عدم دستورية الفقرة الثانية من ذات المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977 فيما نصت عليه من استمرار شركاء المستأجر الأصلي للعين التي كان يزاول فيها نشاطًا تجاريًا أو صناعيًا أو مهنيًا أو حرفيًا في مباشرة ذات النشاط بها بعد تخلى هذا المستأجر عنها (القضية رقم 4 لسنة 19 ق د- الحكم الصادر في 6 يوليو 1996).
(ج) وما قضت به من عدم دستورية ذات النص “الفقرة الثانية من المادة 29 من القانون 49 لسنة 1977- فيما نصت عليه من استمرار الإجارة التي عقدها المستأجر في شأن العين التي استأجرها لمزاولة نشاط حرفي أو تجارى لصالح ورثته بعد وفاته”.
ولما كانت المبادئ التي قررتها هذه الأحكام تدور كلها حول استعادة التوازن بين مصالح المستأجر وتطلعاته و مصالح المؤجر وحقوقه وكان الحكم الصادر في 18 مارس سنة 1995، قد حوى أهم الأسانيد التي استندت إليها سائر هذه الأحكام لتبرير التوجه الجديد للمحكمة، فإننا سنكتفى باستعراض أهم ما تضمنه هذا الحكم الصادر في 18 مارس 1995 من مبادئ وهو -فيما نرى- حكم بالغ الأهمية في تحديد رؤية المحكمة للعلاقة بين المستأجر والمؤجر، وفى تحديد ما تراه أساسًا دستوريًا لمسلكها في إقامة هذا التوازن وأساسا -كذلك- لمخالفتها توجه المشرع الذي عبرت عنه النصوص التي رأت المحكمة مخالفتها للدستور”.
(أ) لاحظت المحكمة -بحق- أن نطاق الطعن الماثل أمامها لا ينحصر فيما قررته المادة 29 سالفة الذكر.. وإنما يمتد إلى الأحكام ذاتها التي تبنتها المادة 18 من القانون رقم 136 لسنة 1981 لصالح هذه الفئة عينها، ومن ثم امتد عدم الدستورية إليها هي الأخرى.
(ب) حدد الحكم، بوضوح لا مزيد عليه، موقف المحكمة من السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق مقررًا أن الأصل في هذا السلطة أنها تقديرية، ما لم يفرض الدستور على ممارستها قيودًا لا يجوز تخطيها. وأن المشرع في مجال تنظيم العلائق الإيجارية، وإن قرر من النصوص القانونية ما ارتآه محققا للتوازن بين أطرافها، “إلا أن هذا التوازن لا يجوز أن يكون صوريًا أو منتحلًا أو سرابًا، بل يجب أن يعكس حقيقة قانونية لا مماراة فيها، ليكون التنظيم التشريعي لحقوق المؤجرين والمستأجرين في دائرتها منصفًا لا متحيفًا، متضمنًا الحقائق الموضوعية وليس متعلقًا بأهدابها الشكلية”.
وانتهت المحكمة إلى أن القيود التي يفرضها المشرع على حق الملكية “أي حق المؤجرين الملاك: لا يجوز أن تكون مدخلا لإثراء مستأجر العين وإفقار مالكها، ولا أن، يحصل المستأجر من خلالها على حقوق لا يسوغها مركزه القانوني في مواجهة المؤجر، وإلا حض تقريرها على الانتهاز، وكان قرينة الاستغلال”. وبهذه العبارة تأكد أن المحكمة تقتحم فعلًا، وهي عالمة تمامًا، مجال السلطة التقديرية التي تختص بها -أصلًا- السلطة التشريعية، وكأنها تعيد للعلاقة بين المستأجرين والمؤجرين توازنًا عادلًا أخلت به نصوص القوانين التي قضت المحكمة بعدم دستوريتها.
(ج) وبسبب إدراك المحكمة لما قد يوجه لهذا الاقتحام الجريء من نقد أو ما قد يحيط به من تحفظ.. فقد توسعت في عرض مبررات هذا الاقتحام، واصفة تدخل المشرع بالنصوص محل الطعن بأنه “شطط وقلب للموازين” وأن من شأنه أن يجعل مغبون الأمس وهو المستأجر “غابنا” وأن من شأن هذا كله “أن يحل الصراع بين هذين العاقدين بديلًا عن اتصال التعاون بينهما”.
(د) لاحظت المحكمة -بحق كذلك- أن النص المطعون فيه يندرج تحت التشريعات الاستثنائية التي تدخل بها المشرع لمواجهة الأزمة المتفاقمة الناشئة عن قلة المعروض من الأماكن المهيأة للسكنى.. إلا أنها لاحظت -بحق كذلك- “أن الطبيعة الاستثنائية لهذه التشريعات التي اعتبر المشرع أحكامها من النظام العام لإبطال كل اتفاق على خلافها.. لا تعصمها من الخضوع للدستور، بل يجب “أن يكون مناط سلامتها هو اتفاقها مع الدستور، ويجب بالتالي أن تقدر الضرورة المواجهة لهذا التنظيم الخاص بقدرها، وأن تدور معها وجودًا وعدما تلك القيود التي ترتبط بها وترتد إليها باعتبارها مناط مشروعيتها وعلة استمرارها.
(هـ) ولم تكتف المحكمة بهذا التدليل المستمد من الطبيعة الاستثنائية للتشريعات محل الطعن.. وإنما عادت لتقيم حجة إضافية مستمدة من تحديد مصدر حق مستأجر العين في استعمالها مُّذكرة بأن هذا الحق مصدره العقد دائمًا، وأنه لا يزال حقًا شخصيًا.. وليس حقًا عينيًا ينحل إلى سلطة مباشرة على العين المؤجرة ذاتها يمارسها مستأجرها دون تدخل من مؤجرها، ولازم ذلك أن يكون بقاء مستأجر العين فيها مرتبطا بضرورة شغلها بوصفها مكانا يؤويه هو أسرته، فإذا تخلى عنها تاركا لها، وأفصح بذلك عن قصده انهارت الإجارة التي كان طرفًا فيها وزايلته الأحكام الاستثنائية التي بسطها المشرع عليه لحمايته.
وانتهت المحكمة من عرضها لهذه الحجة الإضافية إلى أن المشرع آثر بالنص المطعون فيه أن يمنح -بالشروط التي حددها- مزية استثنائية يقتحم بأبعادها حق الملكية انتهاكًا لمجالاتها الحيوية التي لا يجوز أن يمسها المشرع إخلالًا بها، ذلك أن منفعة العين المؤجرة تنتقل بموجبها (أي بموجب هذه المزية الاستثنائية) من مستأجرها الأصلي إلى غيره من أقربائه بالمصاهرة حتى الدرجة الثالثة، ليحل هؤلاء محل المستأجر الأصلي في العين التي كان يشغلها الأبناء على تعاقد تم بينهما مثلما هو الأمر في شأن التأجير من الباطن أو التنازل عن الإجارة، بل بقوة القانون.
ومضت المحكمة تردد هذا المعنى وتقلبه على جوانبه كلها مقررة أن ما فعله النص الطعين “يناقض خصائص الإجارة” وأنه “ينحل إلى عدوان على الملكية من خلال نقضه بعض عناصرها، وهو بذلك لا يندرج تحت تنظيمها، بل يقوم على إهدار كامل للحق في استعمالها واستغلالها”. ملحقًا بالمؤجر وحده الضرر البين الفاحش “وأن المشرع بهذا قد خرج على قاعدة التضامن الاجتماعي التي أرستها المادة (7) من الدستور”. وهو “ما يخل بالحدود التي ينبغي أن يتم تنظيم الملكية في نطاقها” مما يصم النص المطعون فيه بإهدار أحكام المواد 2، 7، 32، 34 من الدستور”.
ومما يستحق التنويه في هذا المقام أن المحكمة الدستورية قد تابعت في عدد من أحكامها الحديثة هذا التوجه الجديد في استعادة التوازن بين المؤجر والمستأجر استعادة تتأكد بها حماية الملكية الخاصة التي قررها الدستور، ونشير في ذلك إلى حكم حديث للمحكمة صادر في 3 نوفمبر 2002 في القضية رقم 70 لسنة 18 ق.
(و) انتهت فيه إلى عدم دستورية الفقرة الثالثة من المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977 “فيما لم يتضمنه من النص على انتهاء عقد الإيجار الذي يلتزم المؤجر بتحريره لمن لهم الحق في شغل العين بانتهاء إقامة آخرهم بها سواء بالوفاة أو الترك”. ولهذا الحكم في تقديرنا دلالة مزدوجة فهو يعبر -من ناحية– عن مواصلة المحكمة جهدها الذي أشرنا إليه في إعادة التوازن بين حقوق المالك وحقوق المستأجر، كما أنه يعبر-فوق ذلك ومعه- عن ولاء المحكمة لتراثها الذي صار راسخًا وثابتًا في حماية الحقوق والحريات التي كفلها الدستور، وهو ولاء نتمنى ونتوقع أن يستمر وأن يتضاعف يومًا بعد يوم.
ولا نملك في نهاية استعراضنا لهذه الأحكام العديدة التي سعت بها المحكمة إلى إعادة التوازن بين حقوق المستأجرين وحقوق المؤجرين إلا أن نقرر أمرين: هما خلاصة تقييمنا لقضاء محكمتنا الدستورية في هذا المجال الاجتماعي الذي يعبر عن أزمة تعرضت لها حياتنا العامة بسبب صعوبة تحقيق التوازن والمصالحة بين فئتين كبيرتين من فئات المجتمع، لكل منهما مصالحها، ولكل منهما من يدافع عن تلك المصالح أمام الرأي العام وداخل المجلس التشريعي. الأمر الأول: أن المحكمة قد شيدت بناء قانونيًا ودستوريًا شديد التماسك لتتمكن من مواجهة هذا التناقض البيّن بين مصالح المؤجرين والمستأجرين. مستخدمة فيه كل ما امتد إليه نظرها من المبادئ القانونية. وفى مقدمتها ضرورة احترام حقوق الملكية الخاصة التي كفلها الدستور، وضرورة احترام المصدر التعاقدي لحقوق كل من المستأجرين والمؤجرين. وطبيعة التأقيت الملازم لعقد الإجارة في القانون، وفى الشريعة الإسلامية على السواء، وفوق هذا كله، وقبله أن السلطة التقديرية للمشرع في مثل هذه الأمور، لا يمكن أن تغل يد المحكمة عن بسط رقابتها على ممارسة تلك السلطة.
الأمر الثاني: أن هذا القضاء يمثل -في مجموعه- خطوة بالغة الجسارة وبعيدة الآثار في تحديد علاقة السلطة القضائية بالسلطة التشريعية.. وبهذه الخطوة انتحلت المحكمة لنفسها سلطة “إصلاح” الخطأ البيّن الذي قد تقع فيه السلطة التشريعية في ممارسة وظيفتها الدستورية في سن القوانين. وسلطة المحكمة في ذلك لا تختلف كثيرًا عن سلطة المحاكم الإدارية المقررة في الفقه والقضاء الإداريين لمراقبة ما قد يشوب السلطة التقديرية للإدارة من “غلو” وهو “الغلو” الذي وجد فيه قضاؤنا الإداري، مبررًا وأساسًا للقضاء بإلغاء القرار الإداري باعتبار ذلك الغلو سببًا مستقلًا للإلغاء أو باعتباره قرينة على الانحراف بالسلطة، وهو شبيه كذلك بما قرره مجلس الدولة الفرنسي لنفسه من سلطة إلغاء القرار الإداري إذا شابه خطأ صارخ- في التقدير.
وقد لا تكون هذه الصيغة الجديدة للعلاقة بين السلطتين القضائية والتشريعية هي الصيغة التي قام عليها دستورنا حين أخذ بمبدأ الفصل بين السلطات.. ولكنها فيما نرى صيغة صالحة، ولكن في أضيق الحدود، لعلاج عجز المشرع أو تراخيه في بعض الحالات الاستثنائية عن إصلاح خلل حالت استطالة مدته وتمسك بعض الأطراف به استدامة لمصالحهم وما يرونه حقوقا اكتسبوها، دون تدخل المشرع ليضع -بقاعدة عامة جديدة- نهاية لما وقع من إخلال بالتوازن الضروري بين مصالح الفئات المختلفة، ولهذا ومع تقديرنا للضرورة التي دفعت المحكمة الدستورية إلى هذا النوع من التدخل، ومع إعجابنا بدقة وإحكام البناء القانوني الذي شيدت عليه قضاءها، فإننا لا نملك إلا أن نتوجه إلى المحكمة -التي يعلم الله كم نعتز بها وكيف نرى فيها خط دفاع كبير عن الحقوق والحريات والضمانات التي قررتها نصوص الدستور- كي لا تتوسع في استخدام سلطتها هذه، وأن تعتبر اللجوء إليها استثناء شبيهًا بالتدخل الجراحي الذي تقضى الحكمة بعدم اللجوء إليه إلا عند الضرورة القصوى وبعد أن يتحقق عدم جدوى سائر وسائل التدارك والعلاج.
إن التزام الحذر الواجب في ممارسة هذه السلطة التي قررتها المحكمة لنفسها من شأنه أن تتراجع أو تذهب إلى غير رجعة الدعوات التي ارتفعت منذ سنوات قليلة منادية بوضع قيود على سلطة المحكمة، من شأن الأخذ بها على ما سوف نبينه أن تتراجع الفرص الحقيقية لحماية الشرعية الدستورية، وتتراجع معها فرص حماية سائر الحقوق والحريات التي قررتها نصوص الدستور.
ثانيًا: الوسائل الفنية التي تستطيع المحكمة الدستورية أن تعدل بها عن بعض أحكامها القديمة:
مضى على إنشاء محكمتنا الدستورية ما تعد [يزيد] على اثنين وعشرين عامًا، أصدرت خلالها أكثر من 2500 حكمًا.. يقع أكثرها في ميدان الطعون بعدم دستورية القوانين.. وهي أحكام تتناول ألوانًا عدة من الموضوعات.. منها ما يتصل على [بمبدأ] المساواة في مجالاته المختلفة ومنها ما يتعلق ببيان طبيعة وحدود الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور.. ومنها -على ما بينّا في الجزء الأول من هذا البحث- ما يقع في مجالات بالغة الدقة من مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وإذا كان جوهر العمل القضائي -بصوره كلها- يتمثل في إنزال حكم القانون على الوقائع المتنازع حولها.. وكانت تلك الوقائع متجددة متطورة.. ومع التسليم أن نصوص الدستور المصري تعلو -بحكم الجمود النسبي المقرر لها- على موجبات التغير المتكرر السريع.. فلا يزال صحيحًا أن الإطار الواقعي والموضوعي الذي تجرى في ظله مهمة “تنزيل حكم النصوص على وقائع الدعاوى والمنازعات” هذا الإطار متغير ومتجدد في بعض عناصره على الأقل على نحو قد ترى معه المحكمة أن الأمر يدعو إلى مراجعة بعض أحكامها السابقة، خصوصًا تلك التي مضى على صدورها أمد بعيد أو تلك التي كشفت الممارسة العملية عن أضرار ومظالم سببتها لأطراف النزاع أو لغيرهم ممن لم يكونوا طرفًا في الخصومات القضائية. ولأمر ما لا يزال خافيًا عنا، تصورت المحكمة ومعها جانب كبير من الفقه، وجانب كبير كذلك ممن يعبرون عن الرأي العام.. أن الأصل هو امتناع المحكمة عن ممارسة هذا “العدول” عن الأحكام القديمة.. ومواصلة الالتزام بما جرت به وقررته تلك الأحكام أيا كان وجه الرأي فيما قضت به وانتهت إليه. ولا بد لنا ونحن نعالج هذه القضية الفنية الدقيقة أن نذكر أمرين لا بد أن يكون لهما وزن كبير في تحديد منهج هذه المعالجة.
الأمر الأول: أن مصر ليست من الدول التي يقرر نظامها القانوني مبدأ حجية السوابق القضائية Slare Decisis المقرر والمعروف في النظام القانوني الأنجلو سكسونى أو الأنجلو أمريكي كما يقال اليوم.
إن هذا المبدأ، غير المقرر في مصر، يجد مبرره الأساسي في ضرورة المحافظة على استقرار المعاملات، من خلال استقرار المبادئ التي تتضمنها الأحكام القضائية.. وهو اعتبار له قيمته التي لا يجادل فيها أحد.. ولكن إعماله وحده وتجاهل ما قد يطرأ على الجماعة من موجبات التطور والتغيير يحول الاستقرار Stability إلى جمود وتحجر Stagnation and rigidity ومن ثم لا يتصور الرفض المطلق لمراجعة بعض المبادئ التي قررتها الأحكام السابقة للمحكمة والتي تظهر الحاجة واضحة إلى مراجعتها في ظل ما طرأ بعد صدورها من تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية تستوجب تلك المراجعة.
الأمر الثاني: أن للمسألة خصوصية متميزة حين تتصل بالقضاء الدستوري وحين تتصل -بصفة خاصة- بالمبادئ التي قررتها الأحكام السابقة حماية للحريات وإعمالًا للحقوق والضمانات التي قررتها نصوص الدستور، إذا إن القيمة الحقيقية لتلك المبادئ لا تتمثل في حماية حقوق وحريات من يلجؤون إلى المحكمة سعيًا لحماية تلك الحقوق والحريات، ووقوفًا في وجه كل صور “الخروج على الدستور” التي تمس مصالحهم.. وإنما تشكل تلك المبادئ “حرمًا” آمنا حول حقوق الأمة وأفرادها جميعًا.. قد تحوم حوله سلطات الحكم وتحدثها نفسها بالمساس به ولكنها تتردد طويلًا قبل اقتحامه والولوغ فيه بسبب حراسة المحكمة له وقيامها على احترامه.. لذلك يتجنب كثيرون تشجيع المحكمة على العدول عن أحكامها القديمة، اعتقادًا بأن الراجح، أن يكون ذلك العدول تراجعا عن بعض المبادئ التي قررتها الأحكام القديمة، وانتقاصا من الحقوق والحريات التي استقرت الأحكام على امتناع المساس بها، وترخصًا في إعمال مبادئ الشرعية الدستورية وسيادة القانون وكلها أمور نتمنى ألا تكون، ولا نتصور –مطلقًا- أن يكون شيء من ذلك وراء البحث عن سلطة المحكمة في العدول عن بعض ما قررته أحكامها السابقة، كما لا نحب -من ناحية أخرى- أن تؤدى هذه الهواجس إلى إجهاض البحث الضروري عن “الوسائل الفنية” التي تفتح الباب أمام المحكمة لتجديد قضائها في ميادينه المختلفة. أما قضية “التراجع” الذي يخشى منه البعض، فتظل أمرًا متعلقًا بالسياسة القضائية للمحكمة، مرجعه في النهاية إلى تصورها لعلاقتها بسائر السلطات، ووعيها- الذي لا نشك فيه أبدًا- بأهمية الدور الكبير الذي تؤديه في تثبيت دعائم الشرعية الدستورية، وإقرار السلام الاجتماعي والسياسي وهو سلام لا قيام له ولا دوام إلا بإلزام سلطات الحكم جميعها بنصوص الدستور ومبادئه، وهي المهمة الكبرى التي وكلها الدستور إلى المحكمة الدستورية، واختصها بها، دون غيرها على ما تقول المادة 175 من الدستور.
ومن الجدير بالذكر أن المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة وهى التي تعمل في ظل مبدأ حجية السوابق القضائية لم تلتزم هذا المبدأ في المجال الدستوري بصفة خاصة، وأنها عبرت- في وقت مبكر للغاية- عن القيمة النسبية لهذا المبدأ، وذلك عام 1849 في القضية المعروفة باسم The Passenger Cas مقررة أن “القاعدة التي تجرى عليها هذه المحكمة هي أن آراءها في تفسير الدستور تظل دائمًا مفتوحة للبحث، لإعادة النظر فيها إذا تبين أنها أقيمت على أساس خاطئ، وحجية هذه الآراء يجب ألا تعتمد إلا على قوة ما تستند إليه من منطق وتدليل”. كما عاد القاضي الشهير براندايز Brandies فشرح موقف المحكمة من مبدأ حجية السوابق القضائية حين يتصل الأمر بتفسير الدستور، وذلك في رأى مخالف له Dissenting Opinion عام 1932 في قضية شركة كورونادو للزيت، ذهب فيه إلى أنه “حين يتصل الأمر بتفسير الدستور الاتحادي، ويتعذر تصحيح الأخطاء القضائية بإصدار تشريعات جديدة، فقد جرت هذه المحكمة على تصحيح أخطائها بنفسها عن طريق نقض أحكامها السابقة، نازلة بذلك عند حكم التجربة وما يتضح أنه الأصح والأسلم من المبادئ القانونية”.
بل إن بعض الشراح الإنجليز أنفسهم يرون أن القوة الملزمة لمبدأ حجية السوابق القضائية تقل كثيرًا حين يتصل الأمر بالمصالح العامة والنظام العام للمجتمع Public Policy “عن مؤلف فريدمان المشهورLegal Theory ص 330” فإذا كان هذا مسلك القضاء في إنجلترا والولايات المتحدة، وهما مصدر قاعدة إلزام السوابق القضائية.. فلا معنى للتردد في فتح الباب أمام التطور الطبيعي للقضاء الدستوري مواكبة للتطور السياسي والاجتماعي، مادامت هذه المواكبة تتم من خلال منهج موضوعي منضبط، لا يتسلل إليه ضعف أو هوى أو يتحكم فيه تأثر بترغيب أو ترهيب وكلها أمور يتنزه عنها كل قضاء عادل ومستقل.
فإذا انتقلنا إلى مناقشة الوسائل الفنية التي تستطيع محكمتنا الدستورية أن تلجأ إليها للعدول عن مبدأ قررته في بعض أحكامها السابقة ذكرنا أن هناك وسائل فنية ثلاث تستطيع المحكمة أن تستخدمها لتحقيق العدول عن مبدأ سبق أن قررته بعض أحكامها القديمة.
الوسيلة الأولى: هي ما يعرف في لغة القضاء بتمييز “السابقة القديمة” عن “القضية الماثلة” أمام المحكمة Disting uishing a Precent. هذا هو الطريق التقليدي الذي يلجأ إليه القضاء الأنجلو سكسونى عبر مئات السنين.. حتى يتخلص من الآثار العملية الضارة والناتجة عن التطبيق الحرفي الجامد لمبدأ حجية السوابق القضائية، ومؤدى هذا الطريق أن تقرر المحكمة أن وقائع الدعوى الجديدة الماثلة أمامها تختلف عن الوقائع التي كانت معروضة عليها حين أصدرت أحكامها في السوابق القديمة ومعلوم أن القضاء في الدول الأنجلوسكسونية قد بلغ في سبيل “تمييز الدعاوى الماثلة عن السوابق القديمة” مبلغًا غير مقبول.. وأنه كثيرًا ما بنى عدوله عن المبدأ القديم على مفارقات بين وقائع الدعويين لا وزن لها ولا قيمة وما كان ينبغي أن يكون لها تأثير يستوجب العدول عن المبدأ القديم. وما دمنا قد انتهينا إلى أن قضاء محكمتنا الدستورية لا يحكمه التزام صارم بالسوابق.. فإن الحاجة لا تقوم في مصر إلى افتعال مفارقات بين وقائع تلك السوابق، ووقائع الدعاوى الجديدة الماثلة سعيًا إلى التخلص من تلك السوابق وإنما يتبقى أمام محكمتنا الدستورية وسيلتان فنيتان أخريان تملك المحكمة الاختيار بينهما. الوسيلة الثانية: مؤداها أن تتجاهل المحكمة الحكم القديم الذي تريد العدول عنه.. ولا تشير إليه مطلقا في حكمها الجديد مكتفية بتقرير مبدأ قانوني مخالف، أو تفسير للدستور مغاير للتفسير الذي سبق لها أن تبنته.. والواقع أن هذا التجاهل أيسر على المحكمة إذا كانت السابقة القضائية المخالفة قد مضى عليها زمن طويل تغيرت خلاله الأوضاع والملابسات المحيطة بموضوع الدعوى تغيرًا كبيرًا يبرر العدول عن المبدأ القديم.
ومن الأمثلة الشهيرة التي يسوقها الشراح الأمريكيون في هذا الصدد حكم المحكمة العليا الاتحادية عام 1917 في قضية بانتنج ضد أوريجون حيث قررت المحكمة الدستورية قانونًا صادرًا في ولاية أوريجون متضمنا تحديد حد أقصى لساعات العمل في المصانع، ناقضة بذلك حكما قديما شهيرا يرجع إلى عام 1905 صادرًا في قضية لوتشنر Lochner v.new york ضد نيويورك وفيه قضت المحكمة بعدم دستورية تشريع صادر في نيويورك يضع حدًا أقصى لساعات العمل في المخابر وكان هذا العدول تعبيرًا عن نظرة جديدة إلى سلطة الدولة في التدخل في حرية الأفراد في التعاقد، وإلى نظرة المحكمة لحدود هذه الحرية فبعد أن كانت المحكمة تتبنى تصورًا مسرفًا في احترام حرية التعاقد، يحول بين المشرع وبين حماية مصالح عامة ترجح عند المفاضلة على حرية الأفراد في التعاقد عادت فقيدت هذه الحرية رعاية لمصلحة عامة راجحة هي حماية العمال من استغلال حاجاتهم للعمل من جانب أصحاب المصانع وأرباب الأعمال، وتشغيلهم ساعات طويلة من شأنها أن تمس صحتهم وأن تعرضهم لأضرار قدر المشرع أهمية حمايتهم منها. وقد تفاوت النظر في تقدير هذه الوسيلة الفنية وفى المفاضلة بينها وبين التصريح بنقض السابقة القديمة.
فالميزة الكبرى لهذه الوسيلة أنها تيسر للمحكمة تصحيح أخطائها في هدوء، ودون إثارة للرأي العام، أو رأى بعض أصحاب المصالح، إلا أنها من ناحية أخرى تفتح الباب أمام المحكمة كي تعود إلى السابقة القديمة مادامت لم تنقض صراحة، وهو ما ينزع الاستقرار ويفضى إلى الاضطراب في المعاملات لذلك وجدنا المحكمة العليا الأمريكية تعود مرة أخرى عام 1923 إلى المبدأ الذي كانت قد قررته عام 1905، ذاهبة في قضية أدكنز ضد مستشفى الأطفال Adkins V.childern`s Hospital إلى عدم دستورية تشريع يضع حدًا أدنى لأجور النساء في العمل، زاعمة أن المبدأ الذي تقرر عام 1905 في قضية لوتشنر، هو السابقة المعتمدة وأنه لم ينقض أبدًا وفى تقديرنا أن المحكمة في مفاضلتها بين حكمين سابقين متناقضين من أحكامها ستجد نفسها مضطرة دائما إلى تمييز وقائع الدعوى الماثلة أمامها عن واحدة من السوابق التي تريد العدول عنها وتقريب تلك من الوقائع الدعوى التي نرى فيها “السابقة الملزمة لها”. وهو ما يفتح -بدوره- بابًا للحيرة في معرفة المبادئ الملزمة التي قررتها المحكمة في أحكامها المختلفة أو في تصور ما سوف تكون عليه الأحكام الجديدة حين يعرض الأمر مرة أخرى على المحكمة.
أما السبيل الثالث: الذي تملكه المحكمة والذي تلجأ إليه مضطرة إذا كان الحكم الذي تريد العدول عنه حديث العهد، لم ينسه المتقاضون ولا تملك المحكمة لذلك تجاهله والسكوت عنه. فهو العدول الصريح عما قرره الحكم القديم والتصريح بأن السابقة القديمة قد نقضت بقضائها الجديد. ومن الملابسات التي تسهل على المحكمة انتهاج هذا الأسلوب الأخير أن تكون السياسة التشريعية والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية قد تغيرت تغيرًا جذريًا.. على نحو يكون معه التمسك بالسابقة القديمة وقوفًا في وجه حركة المجتمع، والتزامًا بما لا يلزم من رؤى ومفاهيم عدل المجتمع عنها واتجه إلى سواها.. وقد حدث هذا في الولايات المتحدة في أعقاب أزمة أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي بين الرئيس روزفلت والمحكمة العليا حول سياسته الاقتصادية الجديدة New Deal التي تبنت صورًا لم تكن مألوفة من صور التدخل الحكومي في العلاقات الاقتصادية وهى الأزمة التي انتهت -في أعقاب نجاح الرئيس روزفلت في الانتخابات عام 1936- إلى عدول المحكمة السريع عن سلسلة من أحكامها كانت قد قررت فيها عدم دستورية أجزاء كبيرة من برنامج الاصلاح الاقتصادي الذي تبناه الرئيس روزفلت ومعه الكونجرس وبسبب السرعة التي جرى بها عدول المحكمة عن قضاء موصول لها فقد كان هذا العدول موضوع لنقد شديد تزعمه بعض أعضاء المحكمة وعلى رأسهم القاضي روبرتس الذي ذهب في رأى مخالف له عام 1944 إلى أن “هيبة المحكمة واحترامها لابد أن تسقط عند جمهور المتقاضين وعند المحامين حين يعملون أن شيئًا مما قالته لا يلزمها في الدعاوى الجديدة المنظورة أمامها”. ويظل الأمر في النهاية مرتبطًا بسياسة المحكمة ومدى قدرتها على التوفيق بين اعتبارات الاستقرار والاستمرار، واعتبارات الرجوع إلى الحق حين يتكشف وجه الخصومة- أو يتبين مقدار الضرر الذي سببه حكم قديم لها.
وفى ختام هذا الجزء من البحث المقرر [نقرر] الأمور الآتية:
1 – إن التعميم في مناقشة هذه المشكلة نقض [يقود] لا محالة إلى الخطأ، وأن المنهج السليم في تقدير مسلك المحكمة حين تعدل عن قضاء قديم لها ينبغي أن يتجه البحث عن الأسباب الحقيقية لهذا العدول في كل حالة على حدة، وأن توزن الأضرار الناتجة عن هذا العدول بالأضرار الناتجة من استمرار المحكمة في تطبيقها لسابقة فسادها، أو تغيرت دواعي وأسباب الحكم الصادر فيها.
2 – يدل استقرار أحكام المحكمة العليا من بعدها المحكمة الدستورية العليا في مصر.. على أن المحكمتين وإن لم تعرضا على نحو مباشر لمناقشة حق المحكمة في العدول عن بضعة أحكامها القديمة.. إلا أن هناك أحكامًا غير قليلة عدلت فيها المحكمة فعلًا عن مبادئ قررتها في أحكام سابقة دون أن تصرح صراحةً بهذا العدول.. أي أنها اتبعت الوسيلة الفنية الثانية التي عرضناها فيما سبق. من ذلك على سبيل المثال أن المحكمة الدستورية قد رفضت بحكم شهير لها الصادر في القضية رقم 20 للسنة الأولى القضائية (دستورية) الطعن بعدم دستورية ما تقرره المادة 226 من القانون المدني من فوائد يدفعها المدين بمبلغ من النقود معلوم المقدار نظير تأخره عن السداد، وهي فوائد مقدارها 4% في المسائل المدنية و5% في المسائل “التجارية”.. وكان من أسباب هذا الطعن مخالفة هذا الحكم لأحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها التي أصبحت منذ عام 1980 المصدر الرئيسي للتشريع بمقتضى التعديل الذي تقرر في تلك السنة للمادة الثانية من الدستور.
واستندت المحكمة في رفض هذا الطعن إلى أن المادة 226 المطعون بعدم دستوريتها قد صدرت عام 1948، أي قبل نفاذ المادة الثانية من الدستور، حتى قبل تعديل نصها الأصلي الذي تضمنه دستور عام 1971، وأن القيد الذي فرضه المشرع الدستوري على الدستور لا ينصرف إلا إلى التشريعات التي تصدر بعد نفاذ المادة الثانية من الدستور. وهذا الذي انتهت إليه المحكمة مخالف تمامًا لما سبق للمحكمة العليا أن قررته في عدة أحكام لها منها حكمها الذي أصدرته المحكمة في 6 نوفمبر 1971 مقررة عدم دستورية القرار بقانون رقم 31 لسنة 1963 بتعديل المادة 12 من قانون مجلس الدولة الصادر عام 1959 فيما نصت عليه من اعتبار القرارات الصادرة من رئيس الجمهورية بإحالة الموظفين إلى المعاش أو الاستيداع أو فصلهم بغير الطريق التأديبي من أعمال السيادة، وقد ذهبت المحكمة إلى أن القرار المطعون فيه ينطوي على مصادرة لحق هؤلاء المواطنين في الطعن في تلك القرارات أو التقاضي بشأنها، فضلًا عن إهداره مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق، بالمخالفة لنصى المادتين 40 و 68 من الدستور والدساتير السابقة، وأنه “لا يطهره من هذا العيب ما نصت عليه المادة 191 من الدستور من أن كل ما قررته القوانين واللوائح من أحكام قبل صدور هذا الدستور يبقى صحيحًا ونافذًا، وأن نص المادة 191 المشار إليه “لا يعنى سوى مجرد استمرار نفاذ هذه القوانين واللوائح دون تطهيرها مما قد يشوبها من عيوب ودون تحصينها ضد الطعن بعدم الدستورية”.
وقد تابعت المحكمة الدستورية العليا مسلك المحكمة العليا هذا في سلسلة من أحكامها، نذكر منها على سبيل المثال حكمها الصادر في 11 أكتوبر 1997 والذى تعرض للطعن بعدم دستورية المادتين 14 و 15 من القانون رقم 598 لسنة 1953 بشأن أموال أسرة محمد على التي صدر قرار من مجلس قيادة الثورة في 28/11/1953 بمصادرتها ومصادرة ما عساه يكون قد انتقل منها من أفرادها إلى غيرهم عن طريق الوراثة أو المصاهرة أو القرابة، وقالت المحكمة في أسباب حكمها أنه “من حيث إن قضاء المحكمة العليا التي تتقيد المحكمة الدستورية العليا بأحكامها على ما جرى به قضاؤها مؤداه أن دستور 1956 لم يتخذ موقفًا واحدًا من التشريعات السابقة على العمل به، بل غاير بينها على ضوء أهميتها لثورة يوليو 1952 فما كان منها ملبيًا متطلباتها الرئيسية.. فإن حصانته من الطعن عليه أو التعويض عنه أمام أية جهة تكون نهائية لا رجوع فيها على ما تقضى به المادة 191 من هذا الدستور. وما كان من تشريعاتها في درجة أدنى فإن حمايتها تكون أقل إذ تبقى نافذة مع جواز إلغائها أو تعديلها وفقًا للإجراءات المقررة في الدستور فلا يكون نفاذها عملًا بنص المادة 190 من ذلك الدستور مؤديًا إلى تحصينها بما يحول دون الطعن عليها.
كذلك قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية عدد من النصوص التشريعية الصادرة قبل تاريخ العمل بدستور 1971 لمخالفتها المادة 34 من هذا الدستور. ولكن هذه السلسلة المتصلة من أحكام المحكمة العليا، ومن بعدها المحكمة الدستورية العليا لم تمنع هذه الأخيرة من مخالفة تلك الأحكام جميعها ورفضها والقضاء بعدم دستورية المادة 226 من القانوني المدني استنادًا إلى أن تلك المادة سابقة على تاريخ نفاذ المادة الثانية من دستور 1971 والتي جرى تعديلها عام 1980 على ما بينا.
وخلاصة ذلك كله أن المحكمة الدستورية العليا لم تتردد في العدول عن بعض أحكامها القديمة، وذلك دون أن تقرر صراحة أنها تعدل عنها.. مكتفية بتقرير مبدأ مخالف لما كان قضاؤها القديم قد أقيم عليه. ومعنى هذا كله أن الباب كان ولا يزال مفتوحًا أمام المحكمة لمراجعة بعض ما قررته من قبل في أحكامها القديمة.. ولكن هذه المراجعة تظل مع ذلك جزءًا من السياسة القضائية للمحكمة تحكمه اعتبارات أساسية في مقدمتها –فيما نرى– أمران:
أولهما: أن يكون هذا العدول تعبيرًا صادقًا عن الرغبة في أن تعبر أحكام المحكمة عما يطرأ على الأوضاع الاجتماعية والسياسية في المجتمع المصري من تغيرات.. وأن تظل المحكمة – وهي تستجيب بقضائها لهذه التغيرات – على وعى كامل بأهمية تحقيق الاستقرار الاجتماعي والقانوني عن طريق متابعة الأحكام القديمة ما لم تنطو هذه المتابعة على إخلال واضح بالمصالح الجماعية الكبرى.. أو كانت التجربة العملية قد كشفت عما أدى إليه تطبيق السابقة القديمة من أَضرار محققة بالجماعة أو ببعض من أفرادها، أو وقوعها في خلل منطق لا يتصور العمل على استدامته وفرضه على المجتمع.
ثانيًا: أن يظل هذا العدول في الحالات التي يتم فيها، محافظًا على الخط الأساسي الذي تبنته المحكمة منذ نشأتها، والذي نتمنى ألا تعدل عنه أبدًا في غد قريب أو بعد غد بعيد، وهو خط حراسة الشرعية الدستورية، وإعلاء كلمة القانون، وصيانة الحقوق والحريات، ذلك أنه إذا غابت الحرية وغابت معها سيادة القانون، أمكن أن يغيب عن الأمة كل خير وكل استقرار، وإذا [حضرتا ففي صحبتهما يحضر] كل صلاح ورشد وأمن وخير.
* نُشر هذا المقال في العدد الثاني من مجلة “الدستورية”، التي تصدرها المحكمة الدستورية العليا في مصر (عدد أبريل 2003م).