مقدمة
برزت منعطفات مهمة خلال التاريخ الإسلامي على مستوى الفكر والحركة. وتعتبر الثورة الإيرانية بدون شك إحدى هذه المنعطفات، حيث بلور مفكروها نقلة نوعية في الفكر الشيعي المعاصر. كما أضاف البعد الثوري الحيوية الحركية على هذا المضمون الفكري الجديد. وقد تعدت الآثار السياسية والفكرية للثورة الإيرانية حدود البلاد، سواء بصورة متعمدة فيما عرف بتصدير الثورة، أو عن غير قصد كنتيجة طبيعية للحدث البارز. والواقع، أن أهمية البعد الفكري لا تقل بأي حال من الأحوال عن دلالات البعد الثوري الحركي. فقد جاءت الثورة الإيرانية كنتاج لتحولات نوعية في الفكر الشيعي، تمخضت بدورها عن سلوكيات حركية متميزة في سجل الحركة الشيعية.
إن التفرد الشيعي في التاريخ الإسلامي يرجع بالأساس إلى عاملين. تجلى الأول في ظهور الشيعة حركة سياسية بالأساس معارضة، حيث خاضت معارك سياسية وحربية ضد الخلافة الأموية ومن بعدها العباسية. ويعبر العامل الثاني عن الدور المحوري الذي لعبه أئمة الشيعة في قيادة الحركة، حتى تاريخ الغيبة الكبرى لآخر الأئمة في القرن العاشر، والتي أدت إلى فقدان الشيعة لقيادتهم الروحية والسياسية، بينما استمر اضطهاد العباسيين لهم. ولذلك، طور فقهاء الشيعة فقه التقية، بمعنى الابتعاد عن الانخراط في الشؤون والممارسات السياسية، بغض النظر عن طبيعة الحاكم وسلوكياته. وفي غياب الإمامة وغلبة التقية السياسية، تعايش غالبية الشيعة مع الخلفاء والحكام المتعاقبين. إلا أن الثورة الإيرانية استطاعت إحداث تحول فكري هام، وهو بلورة مبدأ ولاية الفقيه، وبمقتضاه ينوب الفقيه عن الإمام في قيادة الجماهير الشيعية، على مستوى التوجيه الروحي والسياسي الحركي. وترجع الجذور الفكرية لمبدأ ولاية الفقيه إلى جهود مجموعة من علماء الفقه الشيعي، وعلى رأسهم الإمام آية الله الخميني.
وقد تعرض مبدأ ولاية الفقيه لعدة هَزَّات، على المستوى الفكري والإطار الحركي، قبيل وفاة الخميني وبعد وفاته. أدت هذه الهزات الفكرية إلى تحولات ملموسة في تطبيق مبدأ ولاية الفقيه مع اختيار علي خامنئي، المرشد الحالي للجمهورية الإيرانية، وشروعه في ممارسة سلطاته السياسية والروحية في البلاد وخارجها. وتعرض هذه الدراسة جذور مفهوم ولاية الفقيه وتحولاته، فضلًا عن آثاره السياسية، في الفقه الشيعي الإيراني. كما تناقش التحولات الفكرية والتطبيقية التي طرأت عليه بعد وفاة منظره آية الله الخميني عام 1989، والتحديات التي تواجه المبدأ على مستوى الفكر والحركة. وتقسم الدراسة إلى مبحثين، يركز الأول على الجذور التاريخية والأطروحات الفكرية المتعددة لمبدأ ولاية الفقيه وتطوره على يد آية الله الخميني. ويعنى المبحث الثاني بالتحولات النظرية والتطبيقية للمبدأ قبيل وفاة الخميني وبعدها، والتحديات التي تواجه المفهوم داخل إيران وخارجها.
المبحث الأول
ولاية الفقيه في الفقه الشيعي: الجذور التاريخية والتطورات الفكرية
الجذور التاريخية لمبدأ ولاية الفقيه
مر الفقه الشيعي بثلاث مراحل فيما يتعلق بالعلاقة بالسلطة السياسية. تمثل أولها في ظهور الشيعة كحركة سياسية معارضة، عانى مؤيدوها تحت إمرة أئمتهم الإثنى عشر من القمع الشديد خلال الحكم الأموي والعباسي. [1]واضطر الشيعة بنهاية هذه الحقبة في عام 260 هجريًا إلى مواجهة عواقب اختفاء الإمام الثاني عشر محمد العسكري، بما يعنيه ذلك من غياب القيادة السياسية والروحية. [2] وبناءً على ما اعتبر غيبة الإمام، طور فقهاء الشيعة مذهب التقية، حيث استمر افتقاد السلطة السياسية للشرعية في نظرهم، كما رفضوا استبدال قيادة الإمام الغائب بأية قيادة بديلة. [3]ودشن تأسيس الحكم الصفوي في إيران في القرن السادس عشر مرحلة جديدة للفقه الشيعي، حيث اعتبر المذهب الشيعي هو مذهب الدولة الرسمي. واستعان الصفويون بالعديد من العلماء الشيعة في المناصب الرسمية والاجتماعية، لإضفاء الشرعية على حكمهم، خاصة مع تأجج الصراع الصفوي- العثماني.[4] وقد تراجع الدور السياسي للفقهاء الشيعة في العهد القاجاري، لكنهم استمروا في التواجد على صعيد الشؤون الاجتماعية بقوة. [5] وبرغم التواجد الملموس لفقهاء الشيعة في العهد الصفوي والقاجاري، إلا أنهم استمروا بعيدين عن مراكز صنع القرار والقضاء.
ومع بداية القرن العشرين، دخلت إيران مرحلة جديدة بتعرضها لموجات من التحديث في عديد من مجالات الحياة. [6]وتراجعت أدوار الفقهاء الشيعة بصورة ملموسة، بعد تحالف نخبة المثقفين مع السلطة السياسية وقوات الاستعمار البريطاني لتغليب المؤسسات غير الدينية على المؤسسة الدينية. إلا أنه، واقعيًا، وبخلاف التحالف السابق بين السلطة والاستعمار والمثقفين، لم تكن هناك قوى مؤثرة في المجتمع سوى القيادات الدينية الشيعية. واستدعت الأوضاع السياسية والاجتماعية تحرك هذه القيادات فيما يتعلق ببعض القضايا المحورية في المجتمع، مثل قضية فتاوى التبغ (1891-1892)، والثورة الدستورية في عام 1906. [7] وأحيت قيادات هذه الثورة نظرية عن الحركية السياسية لأحد أبرز فقهاء الشيعة في القرن الحادي عشر الميلادي وهو الشريف مرتضي.[8] وبعد سقوط نظام مصدق عام 1953، أصبح فقهاء الشيعة مجددًا القوة الأكثر تأثيرًا وتماسكًا في المجتمع الإيراني، مما دفعهم لقيادة ما عُرف بالثورة البيضاء على حكم الشاه عام 1963. إلا أنه ينبغي الإشارة إلى أن القيادات الشيعية اهتمت بخروج الاستعمار من البلاد أكثر من تركيزها على إصلاح حكم الشاه. [9]
التطورات الفكرية لمبدأ ولاية الفقيه
يصعب القول بمسؤولية آية الله الخميني منفردًا عن تطوير مبدأ ولاية الفقيه. فمن ناحية، ظهرت عدد من المحاولات الفقهية السابقة حول تنشيط الحركة السياسية الشيعية، وكذلك تطوير الأدوار السياسية للعلماء كمندوبين عن الإمام الغائب.[10] وكان "محمد بن مكي الجزيني العاملي" في جبل عامل بلبنان عام (876هـ= 1471م) صاحب أول تطوير حقيقي في الفقه الشيعي فيما يتعلق بنظرية ولاية الفقيه، حيث وسع الجزيني نطاق عمل الفقهاء، التي كانت قاصرة على الفتاوى الفقهية وما يحصلونه من نسبة الخمس، وعمق تأثيرهم في حياة الشيعة مستندا إلى ما يسمى "نيابة الفقهاء العامة" عن "المهدي المنتظر"، وشملت هذه النيابة القضاء والحدود وإقامة صلاة الجمعة.[11]
ومن ناحية أخرى، قدم مفكر الثورة علي شريعتي أطروحته حول ولاية المفكر الملتزم، والتي تشابهت مع مفهوم ولاية الفقيه. وبرغم وجود بعض الاختلافات بين مبدأ ولاية الفقيه ومفهوم ولاية المفكر الملتزم، إلا أن أطروحة شريعتي مهدت الطريق لرؤية الخميني لتصل وتُقبل لدى قطاعات المثقفين. فقد اتفق المفهومان حول محورية دور القائد في تطوير الحركة السياسية الشيعية، وركزا على قيادته الروحية للأمة جنبًا إلى جنب مع القيادة السياسية. وطرحت فكرة شريعتي فقهاء الشيعة كأحد بدائل المفكر الملتزم المقبول كقائد، وهو ما استطاع الخميني التركيز على الجانب الديني فيه واعتبار الفقيه البديل الوحيد "المقبول" في قيادة الأمة، نظرًا لنيابته عن الإمام الغائب.
وتقوم الولاية لدى شريعتي على إعادة تفسير الشريعة الإسلامية بشكل يحررها من الممارسات الزائفة، وصياغتها بما يتناسب مع المستجدات المعاصرة.[12] وبرغم انطباق شروط المفكر الملتزم على فقهاء الشيعة، إلا أن شريعتي قيد ولايتهم باعتبارها لابد ألا تتعدى المرحلة الانتقالية، كما يجب أن تتم بصورة جماعية. [13]ولم يستطع شريعتي استبعاد فقهاء الشيعة من دائرة الفئات المقترحة للولاية، كما استبعد الخميني المثقفين، نظرًا لتماسك المؤسسة الدينية وقدراتها التنظيمية وسيطرتها الروحية على الجماهير. واشترط شريعتي في ولاية المفكر الملتزم؛ وجود المفكر الذي يملك الأيديولوجيا ولا يكتفي بالمعارف الدينية التقليدية. وكذلك، لابد من وجود الالتزام بمسار الرسول (ص) وآله وحوارييه، وثلاثيتهم وهي: العقيدة والوحدة والعدالة الاجتماعية، والتركيز على مقتضيات الأيديولوجيا: الإيمان والصراع والتضحية.[14]
مبدأ ولاية الفقيه قبل الخميني
ظهرت بعض الاجتهادات في فترة الثورة الدستورية (1905-1911) تسعى لإثبات التكليف الديني في مباشرة الفقيه للحقوق العامة، ولكن داخل هذه الجماعة تعددت الاجتهادات أيضا حول شكل الولاية وحدودها وسلطاتها، ومن هذه الاجتهادات:[15]
ترتبط بولاية فقهاء الشيعة على الشؤون الاجتماعية والأحوال الشخصية لعموم الجماهير الشيعية. ومن أبرز الداعين إليها محمد مهدي نراقي كاشاني وآية الله العظمى كلبايكاني المتوفى عام 1993م.
طالب آية الله العظمى السيد محمد شيرازي "بإنشاء مجلس فقهاء يتكون من أصحاب أعلى درجات العلم الديني لضمان الطابع الإسلامي للدولة. ويرى أن على كل آية عظمى في المجلس المقترح خدمة تابعيه في منطقته باعتباره مرجعهم الأعلى في المسائل الشرعية والاجتماعية والأخلاقية، وأن حل القضايا التي تتخطى حدود المناطق يتم باقتراع الأغلبية في المجلس.[16]
قدم الميرزا محمد حسين النائيني نموذج الولاية المقيدة بالانتخابات خلال الثورة الدستورية في إيران 1905-1911. فقد دعا إلى وجود هيئة دستورية متمثلة بالجمعيات العمومية، أو البرلمانات، أو المجالس التمثيلية، تكون قوة ضابطة ورادعة ومسددة. ويعتبر النائيني أن "صيغة الشورى لا تتناقض مع دور الفقيه في المذهب الإمامي، فالدور الذي تفرضه نيابة الإمام، والذي يتمثل في القيام بالوظائف الحسبية (...) مع عدم ثبوت النيابة العامة في جميع الوظائف، يندرج في نظام شوروي حيث تتحقق الشوروية الملية العمومية، لا مع البطانة وخواص شخص الوالي فقط، بل مع عموم الأمة."[17] ومن أبرز الداعين إلى هذا النموذج آية الله حسين علي منتظري وفقهاء حوزة مدينة قم الإيرانية.
شرح سيد محمد باقر الصدر نظرية "الخلافة الشعبية برقابة المرجعية الدينية"، معتبرًا أن الحقوق السياسية للشعب مستقلة عن الفقهاء بشكل رسمي، ويجب أن يكون هناك مزيد من الرقابة على وضع الفقهاء. وعلى المستوى التنفيذي يتم اختيار المرجع الديني بشكل اعتيادي تقليدي، وليست بالانتخابات الديمقراطية.[18]
ولاية الفقيه لدى الخميني
انطلقت رؤية الخميني في ولاية الفقيه من عدة منطلقات. أولًا: اعتبر الخميني أن الحظر على النشاط السياسي لفقهاء الشيعة منذ غيبة الإمام الثاني عشر يعد من الأخطاء الكبرى. فمن ناحية، فإن الفقهاء والعلماء مسؤولين عن تطبيق أحكام الشريعة، والتي لم تنزل للتنفيذ فقط في القرنين الأوليين من الهجرة، أثناء عهد الرسول (ص) والأئمة. ومن ناحية أخرى، يعد تطبيق هذه الأحكام ضرورة في فترات الحكم المستبد، كما هو الحال في الظروف المعاصرة. [19]ثانيًا: إن العلماء هم أكثر الفئات علمًا بأحكام الشريعة الإسلامية، وبالتالي فهم الأكثر قدرة على النيابة عن الإمام الغائب في تطبيق الشريعة. ولابد ألا تقتصر قيادة العلماء على القيادة الروحية، بل تمتد إلى الزعامة السياسية، تأسيًا بالأدوار السياسية للإمام الغائب. [20]
وبناءً على ذلك، فقد صاغ الخميني نظريته عن ولاية الفقيه، من حيث ضرورة ممارسة الفقهاء أدوار سياسية، بجانب الإرشاد الروحي للأمة. ويقوم العلماء بتعيين القيادات السياسية الأخرى وذوي المناصب التنفيذية، فليس من الضروري ممارسة الفقهاء للمناصب السياسية بأنفسهم. ويكون العلماء مسؤولين فقط أمام الحوزة، وليس تجاه الجماهير أو الفئات الأخرى من المجتمع. [21]
ارتكز الخميني على نظرية ولاية الفقيه المطلقة، والتي تعتمد على أربعة أركان أساسية:[22] أولًا: الولاية: ومعناها التصدي والأولوية في إنجاز شئون الآخرين، فالولاية هي القوامة على الناس، وليس للناس أي دخل في تنصيب أو عزل الولي الفقيه، أو في أعمال وإنجازات الولاية، فجميع الأوضاع العامة تضمن مشروعيتها بانتسابها للولي الفقيه، وينحصر دور الشعب -بشكل تشريعي- على الطاعة والتبعية الكاملة لأوامره ونواهيه، فهذه ولاية قهرية، وليست اختيارية، دائمة أبدية دوام العمر، وليست مؤقتة، عامة على الجميع بدون قيد أو شرط. ثانيًا: النصابة: ومعناها أن تعيين الشخص الصالح للحكم محدد من قبل الإمام الغائب، أي معهودة للفقهاء، ولا يمكن أن يتم اختيار "الولي الفقيه" بناء على رغبة الشعب. ويعزل الفقيه المفتقد لشروط الفقه والعدالة نفسه بنفسه أو بواسطة الله سبحانه.
ثالثًا: الإطلاق: بمعنى أن نطاق سلطة الولي الفقيه تنسحب على المجال العام وقضايا الحكم والسياسة، فلا يوجد ما هو خارج عن محيط ولاية الفقيه، لأن صلاحيات الولي الفقيه هي نفسها اختيارات النبي (ص) والأئمة. وتتمتع هذه الأمور فقط بوجوبية التبعية والإذعان الخاصة بالأمور الشرعية، بل إنها مقدمة كليًا على كل الأحكام الشرعية الفرعية. رابعًا: التفقه أو الفقهية: وتعد أهم الشروط الواجب توفرها لإدارة المجتمع، فالفقه يلعب دورا أساسيا في تشكيل المجتمع وأساليب إدارته، فكل تشكيل سياسي لا بد أن يعتمد على أسس فقهية، فللفقيه القدرة على حل كل مشاكل العالم السياسية والاقتصادية والعسكرية، لقدرته على إرشاد المجتمعات.[23]
الجماهير في ولاية الفقيه
يلاحظ تغييب الخميني لأدوار الجماهير في بلورة النظام السياسي المستند إلى مبدأ ولاية الفقيه، متشابهًا مع علي شريعتي، فالولاية والقيادة للنخبة الدينية، كما الفكرية لدى شريعتي، بحيث تكتفي الجماهير بالاتباع. ورأى الخميني، أسوة بالدور التاريخي للجماهير الشيعية، ضرورة سريان اتباع الجماهير للولي الفقيه بصورة دائمة. فطالما امتلك الفقيه العلم والمعرفة بالأحكام الشرعية فهو واجب اتباعه. ولا يوجب الخميني على الفقيه الشفافية في اتخاذ القرار مع الجماهير أو المحاسبة، فهو مسؤول فقط أمام أقرانه من فقهاء الحوزة.[24]
وفي المقابل، اعتبر علي شريعتي اتباع الجماهير لولاية المفكر الملتزم مرحلي خلال فترة انتقالية، حتى تمتلك الجماهير الوعي الكافي للحركة. فالمفكر الملتزم يؤدي دورًا في تعريف الجماهير بالحضارة الإسلامية ورفع وعيها بالمعرفة المعاصرة، حتى تبلغ الوعي المناسب بقضايا الأمة، وتمارس دورها الحضاري. [25]كما أعطى فقهاء الشيعة الداعين لأشكال ولاية الفقيه الأخرى، مثل الولاية المقيدة بالانتخابات وشورى الفقهاء، مساحات متباينة لأدوار سياسية فعالة للجماهير الشيعية. إلا أنهم اتفقوا على الاستمرار في التقاليد الشيعية المتعلقة باعتبار الأئمة مراجع تقليدٍ للجماهير. وشدد الخميني على محورية دور الفتاوى والتقاليد الدينية في تأجيج حماس الجماهير للثورة، مستخدمًا فكرة الشهادة ونموذج الإمام الحسين للتركيز على ضرورة وإلحاح الثورة ضد الشاه. [26]وفي مراحل ما بعد الثورة، أكد الخميني على الأدوار التنفيذية للجماهير بدون مشاركة في عملية صنع القرار أو المحاسبة. فالعلاقة بين الفقيه والجماهير لدى الخميني علاقة هيراركية من الأعلى إلى الأسفل.
وفيما يتعلق بالمثقفين، وبرغم قبول علي شريعتي لإمكانية اعتلاء الفقهاء قمة نموذج المفكر الملتزم ذو الولاية، فإن الخميني لم يطرح هذه الرؤية، حيث الولاية للفقيه حصريًا. واقتصر دور المثقفين على الجوانب التنفيذية للحكم الخاضعة لسلطة الفقيه، كما الحال مع الجماهير. [27]فالفقيه الولي لدى الخميني عالم دين فقط. وبرغم دعوة الخميني إلى التجديد في تفسير الشريعة والابتعاد عن توافه الأمور، إلا أنه لم يركز على ضرورة إلمام الفقيه بالعلوم الحديثة أو الحرص على توعيته بالأبعاد الحضارية للإسلام. وفي المقابل، تعامل شريعتي مع المفكر الملتزم باعتباره يجب أن يكون ملمًا بالفكر والعلوم الحديثة، كما إلمامه بالإسلام كحضارة وليس قاصرًا على الأحكام. [28]
وبناءً على ذلك، فإن مبدأ ولاية الفقيه لم يبتكره آية الله الخميني من العدم، بل إن الجذور التاريخية للمبدأ تؤكد على جانبين. يتمثل الجانب الأول في وجود اجتهادات فقهية شيعية سابقة على جهود الخميني الفكرية، انصبت نحو بلورة أدوار سياسية، بدرجات متفاوتة، للفقهاء الشيعة، فضلًا عن قيادتهم الروحية للجماهير المتبعة. ويعبر الجانب الثاني عن وجود بيئة سياسية وفكرية مواتية لدى شيعة إيران في الستينيات والسبعينيات لظهور أطروحات تجسد محورية الزعيم الفرد في قيادة الأمة، سواء كان فقيهًا أو مفكرًا ملتزمًا. وقد مهدت هذه الاجتهادات الفقهية التاريخية والبيئة المواتية الطريق لمبدأ ولاية الفقيه لتبوء صدارة أطروحات الثورة، فضلًا عن دور شخصية الخميني الكاريزمية في تجسيد الزعيم القائد. وارتكزت أطروحة الخميني على الإطلاق في صلاحيات الولي الفقيه، مقابل تهميش الأدوار السياسية للجماهير والمثقفين، وغياب المحاسبة والشفافية في سلطات الولي وممارساته.
* باحثة وأكاديمية مصرية.
[1] لمزيد من التفاصيل، انظر:
[2] لمزيد من التفاصيل، انظر:
Ibid, pp23-32
[3] لمزيد من التفاصيل حول نظرية الإمامة في الفقه الشيعي، انظر: أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي (لندن: دار الشورى، 1997).
[4] Azar Tabari, The Role of The Clergy in Modern Iranian Politics, in Nikki R. Keddie (editor) op.cit., pp47-48; Hamid Alger, The Roots of The Islamic Revolution (Ontario, The Open Press, 1983) pp13-15
[5] Ibid, pp48-49
[6] Ibid, pp59-60
[7] لمزيد من التفاصيل، انظر: إبراهيم الدسوقي شتا، الثورة الإيرانية (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1988)؛ وجيه كوثراني، الفقيه والسلطان: جدلية الدين والسياسة في إيران الصفوية - القاجارية والدولة العثمانية (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2001).
[8] لمزيد من التفاصيل، انظر:
Juan R. Cole, Imam Jurisprudence and The Role The Ulama: Mortaza Anzari on Emulating The Supreme Example, in Nikki R. Keddie (editor) op.cit., pp33-47
[9] Khomeini, Hamid Algar (translator and annotator) Islam and Revolution: Writings and Declarations (Berkeley, Mizan Press, 1981) pp40-54
[10] لمزيد من التفاصيل، انظر: محمد الأرناؤوط، جذور ولاية الفقيه ما بين لبنان وإيران، شبكة أقلام الثقافية، بدون تاريخ.
[11] محمد الأرناؤوط، جذور ولاية الفقيه ما بين لبنان وإيران، المرجع نفسه.
[12] Hamid Algar, op.cit., pp 71-82; Shahrough Akhavi, Shari’ati’s Social Thought, in Nikki R. Keddie (editor) op.cit., pp136-140
[13] Ibid., pp 106-120
[14] لمزيد من التفاصيل حول رؤية علي شريعتي حول مفهوم "ولاية المفكر الملتزم"، انظر: عبد الرزاق الجبران، علي شريعتي وتجديد التفكير الديني: بين العودة إلى الذات وبناء الأيديولوجية ( بيروت: دار الأمير للثقافة والعلوم، 2002) ص 259-287.
[15] لمزيد من التفاصيل، انظر: مصطفى اللباد، حدائق الأحزان: إيران وولاية الفقيه (القاهرة، دار الشروق، 2006) نقلًا عن حامد محمود، ولاية الفقيه بين الفارسية والشيعية، islamonline.net، 9 يناير 2007.
[16] ويلفريد بوختا، من يحكم إيران؟ بنية السلطة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، دراسات مترجمة (17) (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2003) ص 123.
[17] وجيه كوثراني، مرجع سبق ذكره، ص 140-141.
[18] محمد السعيد عبد المؤمن، المرجعية الشيعية في إيران والعراق، islamonline.net، 25 سبتمبر 2003.
[19] Khomeini, op.cit., pp40-54
[20] Ibid, pp55-65
[21] Gregory Rose, Velayat-e Faqih and The Recovery of Islamic Identity in The Thought of Ayatollah Khomeini, in Nikki R. Keddie (editor) op.cit, pp176-190;
عادل عبد المهدي، ولاية الفقيه: الديمقراطية والثيوقراطية، مجلة التوحيد (طهران: مؤسسة الفكر الإسلامي، السنة 16، العدد 92، يناير 1998)؛ علي الشفيعي، مشروعية ولاية الفقيه (طهران: مؤسسة الفكر الإسلامي، السنة 16، العدد 92، يناير 1998).
[22] محمد السعيد عبد المؤمن، المرجعية الشيعية في إيران والعراق، islamonline.net، 25 سبتمبر 2003.
[23] المرجع السابق.
[24] Gregory Rose, op.cit, pp 176-180; Khomeini, Islam and Revolution, op.cit, pp 75-125
[25] عبد الرزاق الجبران، مرجع سبق ذكره، ص 259-287.
[26] Khomeini, Islam and Revolution, op.cit, pp 174-176, 200-207, 212-227, 239-240
[27] Greory Rose, op.cit, 175-185
[28] Hamid Algar, op.cit, pp 71-82;
علي شريعتي، إبراهيم شتا (مترجم) العودة إلى الذات (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1986) ص 115-127.